عمل فني يتناول واقعاً محلياً أو يتخطى الأمر إلى إثارة نقاش مجتمعي حوله. جملة، نادراً ما يستحقها مسلسل يُعرض على شاشة لبنانية، بخلاف «الهيبة» (باسم السلكا/ سامر البرقاوي) في «عودته»، كما في جزئه الأول الذي أسسه ببراعة هوزان عكّو، والمبني على فضاء درامي مستند إلى البقاع الشمالي في لبنان، تحديداً، المناطق الحدودية مع سورية. تثير الحلقات الأخيرة، موجة تتهم العمل بتشويه صورة المنطقة وسمعتها، إذ تشير إلى عمل بعض العائلات بالتهريب والمخدرات، إلى جانب السلاح المتفلت وتفشي منطق الثأر والقتل بسببه، وتجنب الدولة إحكام منطق القانون لحسابات غير وطنية، إلى جانب وجود منزل دعارة. ولكن، أرسطو يرى في الدراما أن المحاكاة أصل للفن، وبديهياً ليست توثيقاً. فهل يعتمد «الهيبة» على أكاذيب يسقطها على منطقة معينة أو على واقع موجود ومزمن أصلاً يعيد معالجته درامياً؟ هل بالغ؟ وهل يجوز التعميم على قاعدة أن وجود عميل لإسرائيل في مسلسل مصري مثلاً، يعني أن المصريين كلهم عملاء؟ في هذه الحال ستشنق الدراما نفسها، إذ تفقد كل نموذج للمعالجة، ولكانت الدراما المصرية خسرت الصعيدية منها.

جواب الحال موجود في السؤال بدايةً، فلو لم يكن من الواقع، لما كان يثير أساساً، ربطه بمنطقة محددة منذ الجزء الأول الذي لم يستخدم اللهجة البعلبكية كأداة محسوسة في الحوار، بعكس الثاني.

فجر الأربعاء بتاريخ 16 أيار (مايو)، قبل يوم واحد من بدء شهر رمضان الجاري، تستفيق «مدينة الشمس» على التفلت الأمني، وإطلاق عيارات نارية وإحراق محال تجارية وسط السوق التجارية، بسبب تجدد خلاف ثأري بين عائلتين. الأحد بتاريخ 20 أيار، يؤدي خلاف على سيارة مسروقة إلى تبادل لإطلاق النار في منطقة زيتا الحدودية، ومقتل اللبناني «م. ج» وإصابة شقيقه وشخص آخر وإصابة السارقين. أول من أمس (الأحد) أطلق «م. م» النار على «ع. ا» في بلدة بريتال البقاعية، قاتلاً إياه بسبب تعدي ماشية على أرضه، فيحرق أهل الضحية منزل الجاني ثأراً بانتظار دمه! أمس تتجدد الاشتباكات المسلحة في المدينة. والحوادث من هذا النوع تعد ولا تحصى، وتجرح وتقتل ولا تنهى، وما يعرفه أهل المنطقة أكثر بكثير، كقتل أحد العشائر العريف في المخابرات علي ماجد القاق في عملية ثأرية الاثنين 26 كانون الأول (ديسمبر) 2016، وهي أكثر بكثير من أحداث «الهيبة»، إضافة إلى عمليات الخطف الكثيرة، وتلف مخدر الحشيش سنوياً، والقبض على تجار ومروجي المخدرات في شكل شبه يومي، إلى جانب وجود معامل إنتاج مخدر الـ «كبتاغون» ومن يرعاها، بعضهم من أقارب نواب ووزراء يلاحقهم القضاء.

والموجة لا تقف عند حدود شبكات التواصل الاجتماعي كما هي العادة، بل تصل إلى حد التهديد بوقف المسلسل من قبل بعض الذين وجدوا فيه فرصة جديدة للشهرة، وتحقيق بطولات «دونكيشوتية». تصل إلى «الحياة» نسخة عن بيان صحافي صادر من «مكتب رضا المصري»، يقول فيه: «ما يعرض من مشاهد في المسلسل لا تمت لأهل البقاع والعشيرة بصلة، من حيث العادات والتقاليد والمبادئ. بعض المشاهد غير دقيقة أظهرت شبابنا بصورة مشوهة، حيث أظهرتهم بصورة تجار المخدرات والمجرمين وتجار سلاح ومتفجرات». واللافت أن صاحب البيان سبق اعتقاله من قبل الأجهزة الأمنية بتهم التزوير وانتحال الصفة والاحتيال والاختلاس، لتستقبله عائلته عند إخلاء سبيله بإطلاق الرصاص والقذائف الصاروخية.

الأربعاء في 2 أيار من عام 2017 الماضي، يقول رئيس بلدية بعلبك حسين اللقيس خلال إضراب ينفذه أهالي المدينة، رفضاً للفلتان الأمني: «الجرائم التي تحصل هي نتيجة الوضع الأمني المتردّي الذي يُشجّع القتلَ ويساهم في تفشّي المخدّرات تجارةً وتعاطياً، وهذه الآفة تُهدّد أجيالنا وأبناءَنا بالانحراف، ومستقبلَنا في خطر شديد، نتيجة التراخي في معالجتها وإنهائها من منطقتنا ومن كلّ لبنان». وبعد مرور عام على مقولته الأولى، يقول اللقيس قبل أيام قليلة في مؤتمر صحافي في بلدية بعلبك بحضور نواب المنطقة: «لقاؤنا هذا لبحث موضوع المشاكل الأمنية التي تعاني منها مدينة بعلبك والمنطقة منذ سنوات، والتي تطورت حتى باتت تشكل خطراً على حياة وأرزاق وكرامات الناس، وأصبحت بعلبك ساحة مستباحة كل أعمال الخلل الأمني». لا تغير يذكر في الكلام من عام إلى عام.

من الناحية الدرامية (على أن يتم تناولها لاحقاً بنقد كامل)، ينطلق «الهيبة» من الواقع المذكور، مع وقوعه أحياناً في فخ المبالغة الاستعراضية في أكثر من مكان، وأسوأها الدموية على شاشة منزلية، كمشهد جثة «سليمان السعيد» أو نحر أحد رجال عائلة «شيخ الجبل». لكنه في الجانب الآخر يسير وفق مبدأ النموذج المقابل درامياً أو الوجه الآخر، ما ينفي شبهة التعميم. أمام منطق القتل هناك منطق الإنسانية، وأمام منطق الغابة هناك منطق الدولة، كحوار «عادل» مع شقيقه «جبل» في بداية العمل، وحوار «أبو نضال» مع شقيقه «سليمان» وغيرها الكثير. وأما من ناحية بيت الدعارة، فهو استمرار لتوسيع وجود الأزمة السورية في الأحداث، ومن بينها نشوء شبكات تغصب الفتيات اللاجئات على الدعارة، إلى جانب لبنانيات. يؤكد «جبل» في حواره خلال آخر الحلقة التاسعة أن هذه الظاهرة غريبة عن المنطقة، التي تمر أساساً بحال من عدم الاتزان. بالطبع، كان من الأسلم لأسرة العمل، أن تجنب شخصية «القوادة» الحديث باللهجة البعلبكية التي تفاوت إتقانها بين الممثلين في ضعف فني واضح. المؤلم أن عرض «الهيبة- العودة» ينتهي مع انتهاء شهر الصوم، ولكن واقع بعلبك الهرمل الضحية، يستمر بغياب الدولة وأمنها وقانونها وخدماتها، وتركها وأهلها مشاعاً و «حدوداً من غير بواب». حتى مشهد موت «سلطان شيخ الجبل» بسبب تأخر وصول الإسعاف في «الهيبة»، مشهد يتكرر في الواقع، بسبب عدم وجود مستشفى حكومي أو خاص لائق في قضاء كامل كالهرمل. هل من الواقع، لوم من يسلط الضوء على واقع ما، وترك من يسبب هذا الواقع؟