تحاول كل القوى السياسية الحليفة أو التي على خصومة مع «حزب الله»، التقاط «جملة سياسية مفيدة» تكشف السببَ الجوهري الكامن وراء قرار بري ـ نصرالله اعتبار أنّ اللحظة باتت تستوجب لقاءَهما المباشر، علماً أنّ التواصل بينهما خلال الفترة الماضية الطويلة، وفي مواجهة ظروف طارئة، ظلّ يعتمد قنواتِ اتّصالٍ محدّدة، عادة ما كان يتمّ تعزيزُها عند الحاجة القصوى، بقناة الشيخ نعيم قاسم، وذلك كما حصل أخيراً عند اشتداد التباين بين حليفَي «الحزب» بري وجبران باسيل.
 

والواقع أنّ ما سرّبته مصادر بري والحزب من خلاصات حول أهم عناوين لقائهما، تندرج ضمن كونها رسائل تتقصّد الاشارة إلى وجود تبدّل جوهري حصل في نظرتهما الى ملفات داخلية. وفي رأي أوساط مطّلعة، فإنّ مجرد الكشف عن إجتماع بري ـ نصرالله، كان رسالة. وحتى تسريب حديث «إنعاش الذاكرة» الذي دار بينهما حول متى التقيا أخر مرة (أربع سنوات أو ست سنوات) أراد الإيحاء أنّ اللقاء المباشر بين قطبي الساحة الشيعية في لبنان لا يحدث لأسباب اقل من استراتيجية، ومن دون أن تكون وراء ذلك موجبات إستراتيجية داخلية وخارجية.
وبحسب هذه الاوساط، فإنه لا بدّ من وضع «لقاء القمّة» بين بري ونصرالله ـ وهذا هو الوصف الذي تستخدمه هذه الاوساط للقاء- في سياق المتغيّرات السياسية التي حصلت أخيراً داخلياً وإقليمياً. قبيل إجراء الانتخابات بثلاثة اسبابيع التقى نصرالله برئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل. كان التفاهم الذي عرضه نصرالله بسيطاً: ليتحالف التيار البرتقالي في كل الدوائر وفق مصلحته الانتخابية.
وخلف باب تجاوز ما يحصل من تباين انتخابي بين التيارالبرتقالي و»حزب الله» تمّ، بحسب الاوساط عينها، التفاهم بين الجانبين على صيغة مرحلة ما بعد الانتخابات، والنقطة الأساس فيه هو وضع ثقلهما السياسي معاً، لدعم فرص نجاح العهد في مجال الإصلاح داخل الدولة ومكافحة الفساد، وذلك في مرحلة السنوات الأربع المقبلة. وبحسب هذه الاوساط فإنّ التفاهم بين الجانبين على طريقة مقاربة مرحلة ما بعد الانتخابات، تقرب الى أن يكون بمنزلة «تفاهم مار مخايل 2»، والجديد في المرحلة أنها اشتملت على توافق بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والسيد نصرالله على إشراك رئيس مجلس النواب نبيه بري فيها، في مقابل أن يضمن عون تأمين موقع للرئيس سعد الحريري داخل أهدافها الإصلاحية.
ويؤشر اللقاء الإيجابي الذي جمع بين بري وعون، والسلاسة التي حصلت فيها إنتخاباتُ رئاسة المجلس النيابي ونائبه ووصول نائبين من تكتل «لبنان القوي» الى عضوية هيئة مكتب المجلس، الى سريان تطبيق تفاهم ما يمكن تسميته «مار مخايل 2» الذي يمتاز عن «مار مخايل 1» في أنّ تطبيقاته ليست فقط خارجية، بل للمرة الأولى داخلية وعلى صلة بإيجاد حلول لمشكلات باتت ملحّة، وسيزيد عدم معالجتها من التصدّع داخل منظومة علاقة «حزب الله» بقاعدته الاجتماعية، وستؤدّي الى فشل العهد، ما يؤذي رغبة عون في تحقيق اصلاحات تجعل منه واحداً من الرؤساء الذين تركوا بصمتهم في تاريخ لبنان.
وعلى المستوى الشيعي، فإنّ صورة لقاء القمّة الذي حصل في لبنان، بين زعيمَي الشيعية الفائزَين في الانتخابات، هي صورة مغايرة «للقاء القمّة الشيعي» الذي يحصل حالياً بين حيدر العبادي ومقتدى الصدر الزعيمَين الشيعيَّين الفائزَين في الانتخابات العراقية. الصورة الأخيرة تُظهر تبدّلاً في خيارات شيعة العراق الإقليمية، أما صورة بري ـ نصرالله، فهي تُظهر ثباتاً لخيارات شيعة لبنان الإقليمية.
لقد إفتُتِحَ حوار بري ـ نصرالله جلسة الساعات الخمس بينهما، بعرض للمستجدات الضخمة الدولية والإقليمية. ومن الإقليمي والدولي تمّ الدخول الى الساحة الداخلية لوضع مقاربتهما لها. وكان لافتاً أنّ البيان الرسمي المقتضب الذي اصدره الحزب بعد اللقاء، حرص على الاشارة الى أنه تمّ خلاله التأكيد على دعم القضية الفلسطينية.
ويشي كل ما تقدّم أنّ اللقاء كانت له موجباته الشيعية وكذلك موجباته الإقليمية. فداخل الحزب يسود إقتناعٌ متداوَل مع بري وهو أنّ مرحلة ما بعد الانتخابات ليست كما قبلها، وذلك من زوايا عدة:
• أولاً، العمل على تحصين الساحة الشيعية من ضمن تحصين الساحة اللبنانية وتعزيز فرص نجاح العهد في سعيه الى «تمكين الدولة» من مواجهة المشكلات الداخلية، وذلك في مواجهة الضغوط الخارجية التي تحاول إستغلالَ هذه المشكلات لفرض معادلة توحي أنّ «الحزب هو في مواجهة الدولة»، والعكس صحيح. وعليه يسعى الحزب في علاقته مع عون الى تفعيل ما يمكن تسميته «تفاهم مار مخايل 2» الذي يلحظ تنسيقاً عميقاً في قضايا الإصلاح الداخلي، وليس فقط الاكتفاء بالتفاهم على قضايا الخارج الاستراتيجية. وهذه مهمة لا يمكن الحزب أن يقوم بها من دون لحظ دور لبري يكون مسانداً له، ما يعني تنقية أجواء علاقة بري بالعهد.
• ثانياً، على رغم انّ الحزب وحركة «أمل» فازا بكل مقاعد الشيعة النيابية، ناقصة مقعداً ملتبساً، إلّا أنّ نتائج توزّع الأصوات بينهما أظهرت أنّ ثلاثة أرباع الناخبين الشيعة أيّدوا الحزب والربع الأخير أيّد حركة «أمل». كانت هناك حاجة لدى نصرالله لإظهار أنّ هذه التوزيعة التي أفرزتها نتائج الانتخابات الاخيرة، هي توزيعة رقمية ولا تعني تغييراً في معادلة أنّ شراكة الحزب مع «أمل»، متساوية على المستويَين الشيعي واللبناني. وتأتي إعادة تفويض الحزب لبري ليكون المفاوض الشيعي داخل اللعبة السياسية اللبنانية للتأكيد أنّ التكامل في الأدوار بين «أمل» و»حزب الله»، لا يزال سارياً، وذلك وفقاً للتفاهم بينهما الذي رعته طهران ودمشق نهايات تسعينات القرن الماضي، والذي أنهى احترابَهما آنذاك.
من منظار «حزب الله»، فإنّ استراتيجيّته الداخلية تحتاج في المرحلة الراهنة الى تعديلات جوهرية تستوجبها التحدّيات الدولية التي تخطّط لاستهدافه من داخل منزله الشيعي اللبناني، وأيضاً الإقليمي (نموذج الصدرالشيعي في العراق)، ومن داخل قوته في معادلته اللبنانية المتمثلة بعلاقته التحالفيه مع عون، ما يستدعي منه تموضعاً جديداً على مستوى دوره الداخلي ينقله الى أن يكون شريكاً كاملاً في معركة إصلاحية لا يخوضها وحده، بل يسير فيها مع العهد.