تراجع الكلام في الاوساط السياسية عن الوضعين المالي والاقتصادي، ربما لأن الاولوية اليوم هي لمراقبة الولادة الحكومية. لكن صرف النظر عن مشكلة، لا يعني انها لم تعد قائمة، أو انها على طريق الحل، خصوصا أن عامل الوقت ليس في مصلحة الحل.
 

يَندُر أن يخرج أي زائر من الصرح البطريركي الماروني، ومهما كانت طبيعة الموضوع الذي جاء يناقشه مع غبطة البطريرك بشارة الراعي، من دون أن يسمع من سيد بكركي، كلاما مشوبا بالقلق، على الوضعين المالي والاقتصادي في البلد. ولا يخلو اي بيان يصدر عن اجتماع المطارنة الموارنة الشهري، من فقرة اساسية تُخصّص للتحذير من دقة الوضعين المالي والاقتصادي، وتدعو الى اجراءات سريعة تهدف الى الخروج من هذه الأزمة المستفحلة.


ولا يبدو راس الدولة، مختلفا في مخاوفه عن راس الكنيسة المارونية. وقد تصدّر التقرير الذي تلاه رئيس الجمهورية في احدى جلسات الحكومة السابقة، واجهة الاهتمام الاعلامي، حين ابلغ الوزراء ان البلد يتجه نحو مرحلة صعبة، وان الدين العام سيصل الى 110 مليار دولار في العام 2020، وحذّر الرئيس في تقريره، من إنه اذا «لم نبادر إلى تصحيح الوضع فوراً، فقد يغرق لبنان في دوامة مُهدّدة للاستقرار العام».


وفي مناسبة أخرى، أسرّ رئيس الجمهورية في أذن البطريرك الماروني ان البلد مفلس. ونقل الراعي هذا الكلام الى العلن لدى خروجه من القصر، الامر الذي أثار بلبلة، واضطرت بعبدا الى إصدار بيان توضيحي اعتبر البعض انه لم ينف كلام الافلاس، لكنه حاول تلطيف المضمون من خلال شرح الظروف التي قادت الى استخدام هذا التعبير.


هذه النماذج من المواقف والتطورات تقود الى طرح سؤال آخر يتعلق بالطريقة التي يتصدّى فيها المسؤولون لهذا القلق الذي يتم التعبير عنه على مستوى الصف الاول السياسي والديني.


من المؤسف ان اسلوب التعاطي مع هذه الهواجس يتم بعقلية المؤامرة، واحتساب المكاسب. على سبيل المثال، لم يقرأ المعارضون لنهج بعبدا في التقرير الذي حذّر من نمو الدين العام، سوى انه ذريعة يستخدمها رئيس الجمهورية لعدم توقيع قانون سلسلة الرتب والرواتب في حينه. وتبين لاحقا، ان عون وقّع القانون، وان ما أعلنه كان يعكس حقائق يفترض أن كل من كان يجلس حول طاولة مجلس الوزراء يعرفها.


هذه الجولة التذكيرية بتطورات حصلت قبل بضعة اشهر الهدف منها طرح السؤال التالي: اذا كان الوضع المالي والاقتصادي خطيرا الى درجة ان رئيس الجمهورية والبطريرك الماروني يشعران بالقلق الشديد حياله، فهل يعني ذلك ان بقية مكونات السلطة لا يتقاسمون هذا القلق مع عون والراعي؟


في الواقع، هناك مؤشرات على ان الشعور بالمسؤولية بدأ يتوسّع اكثر من السابق. ويمكن ايراد نماذج عدة عن هذا الوعي السياسي لخطورة الوضع الاقتصادي. وفي الفترة الأخيرة، انضم حزب الله الى لائحة الاطراف السياسية التي تعطي الاولوية للانقاذ المالي، من خلال المساهمة في وقف الفساد المستشري في الدولة. وقد باتت هناك قناعة بأن الاصلاحات ووقف الفساد، طريق إلزامي للخروج من الأزمة الاقتصادية. ولا توجد بوابة عبور أخرى.

 

وبصرف النظر عن الخلفيات التي استدعت نوعا من اليقظة السياسية، يبقى الأهم ترجمة هذه اليقظة. على سبيل المثال، هناك من يعتبر ان استفاقة حزب الله على أهمية وقف الفساد، ترتبط بقلق الحزب من تداعيات الانهيار المالي، والذي قد يؤذي مالياً البيئة الحاضنة للحزب، اكثر مما يؤذي البيئات الاخرى في لبنان. ذلك ان بيئة الحزب، وعلى عكس الآخرين، غير قادرة على الخروج من لبنان بأموالها ومصالحها بسبب الملاحقة الأميركية اللصيقة، من خلال سلاح العقوبات. وبالتالي، بات الحزب يعتبر ان الاولوية ينبغي ان تكون في المرحلة المقبلة للحفاظ على لبنان كمنصة تحمي بيئته الحاضنة.


يبقى السؤال الاساسي هل ستتم ترجمة هذه اليقظة المرتبطة بمصلحة الافرقاء السياسيين، من خلال اعتماد نهج اصلاحي ينقذ البلد من انهيار مالي لم يحصل بعد، لكنه محتوم في حال لم تبدأ المسيرة المعاكسة للخروج من الحفرة؟


يقول أحد الخبراء الماليين في مجالسه، ان السؤال لم يعد يتمحور فقط حول بدء المسيرة الاصلاحية، بل ايضا بات يتعلق بالوقت المتبقي الذي يتيح الانقاذ، في حال قررت السلطة السياسية اعتماده. لبنان اليوم، برأيه، مثل غطاس يضع على ظهره قنينة اوكسجين تكفيه لساعتين. وقد مضى على نزوله نحو الاعماق حوالي الساعة وثلاثة ارباع، وما زال مستمرا في النزول نحو الاعماق. فهل يكفيه ما تبقى من أوكسجين للعودة الى السطح، في حال قرر التوقف والعودة؟