مات برنارد لويس أخيراً عن مائة عامٍ وزيادة. وخلال السنوات الخمس الأخيرة ما كتب شيئاً جديداً، لكنه جدّد طباعة كثيرٍ من كتبه، وبخاصة تلك الكتيبات التي أصدرها بعد عام 2001. برنارد لويس سبق أن عمل مع المخابرات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية باعتباره خبيراً في شؤون الشرق الأوسط. والبريطانيون هم الذين نصحوا الأميركيين به خلال عملهم على الحرب الباردة الثقافية في الستينات؛ إذ ما كان عندهم أحدٌ في خبرته في الإسلاميات الكلاسيكية، والتي أراد الأميركيون استخدامها أيضاً في مصارعة الشيوعية. ولأنّ الدول الكبرى كانت تحتاج إلى أفكار استراتيجية تتحول بعد الدرس والاختبار إلى «سياسات»، فقد وجدوه مفيداً لهذه الناحية. أما هو فقد اعتبر نفسه منذ البداية خبير أقليات، إذا صحَّ التعبير. وقد حضّر عمله للدكتوراه عن الإسماعيلية خلال الحرب الثانية، وهم الأقلية التي أمكن لها بحُسْن التنظيم وسريته أن تُنشئ دولة كبرى هي الدولة الفاطمية، التي صارعت الإسلام السني طوال مائتي عام. أما في السياسات الحديثة، فقد اعتبر لويس الأتراك في التاريخ وفي الحاضر، هم القلة المختارة التي يمكن للغربيين التعاون معها في عالم الشرق الحديث. ولذلك؛ فإنّ كتابه الثالث (كتابه الثاني بعد الحشاشين كان: العرب في التاريخ) موضوعه: تركيا الحديثة. فتركيا العثمانية رغم صراعها الطويل مع الأوروبيين، ظلّت أقلّ تعصباً من العرب «صُنّاع الإسلام»، وأقلّ تعقيداً من الإيرانيين الذين اجتمعت فيهم الخصوصيتان المشكلتان: النعرة القومية العريقة، والتشيع الذي يخدم القومية، لكنه رغم إغراءاته الباطنية، لا يستطيع إقناع الجمهور المسلم الذي صارت أكثريته سنية منذ القرن الثاني عشر الميلادي.
في الوقت الذي عاد فيه هاملتون غب من هارفارد إلى بريطانيا، غادر لويس جامعة لندن وقبل كرسياً لدراسات التاريخ الإسلامي بجامعة برنستون. ومنذ ذلك الحين التفّ من حوله شبانٌ كثيرون تحت اسم دراسات الإسلام الجديدة، وتحت اسم الدراسات الشرق أوسطية. وقد قال لي عندما قابلتُه في عُمان عام 2008، إنّ أول رئيسٍ أميركي قابله كان ريتشارد نيكسون؛ وما أحبَّه لأنه كان مُعادياً للسامية! وقلتُ له: لكنه هو الذي جلب هنري كيسنجر للإدارة، وكيسنجر كان شديد الاحترام لك، وقيل إنه كان يستشيرك! ثم لماذا اخترتَ الإعلانَ عن صهيونيتك إبّان ذلك الوقت، هل بسبب هزيمة العرب عام 1967؟ قال: أنت تسميها صهيونية شأن صاحبكم إدوارد سعيد، وأنا من عائلة يهودية غير متدينة، وقد اعتبرتُ إسرائيل شأن تركيا دولة رائدة للحداثة والديمقراطية. لكنني ما تحزبتُ لها عام 1967، إنما بعد عام 1973، حين استظهرتُ أنّ هناك أخطاراً حقيقية على الكيان والدولة. كل الشعوب الإسلامية الواقعة تحت وطأة الهوية والخصوصية بسبب مشكلات الاستعمار، يمكن مفاوضتُها ومساومتُها والتوفيق بين الإسلام والحداثة عندها إلاّ الشعوب العربية، أو ما تسمّونها أنتم: الأمة العربية، فدعاة مشروع الدين والدولة في عالم الشرق الوسيط والحديث إنشاءً وتطويراً هم العرب، والمساومة «التاريخية» معهم على هذين الأمرين غير ممكنة، حتى لو بدوا جامدين ومتشرذمين وخاضعين. انظر إلى صلابة السلفيات رغم أنّ العالم كله ضدّها! ولذلك فقد فكرتُ قديماً بالأتراك كأصدقاء للغرب ولحلف الأطلسي. وفكرتُ في الإسرائيليين باعتبارهم ممثلين لحضارة الغرب وسياساته في المنطقة. بل إنني فكرتُ لأربع أو خمس سنوات في المسيحيين اللبنانيين، وفي الأكراد. وقلتُ له: ألم تفكر مرة في إمكان مصادقة الأكثريات بعد الاستقلالات، وانتصار أفكار التحرر والديمقراطية؟ قال: لا لم أفكّر، وما كان لذلك داعٍ أو مسوِّغ، ألا ترى أنني كتبتُ في الخمسينات والستينات عن الشيوعية والإسلام باعتبارهما فكرتين أو آيديولوجيتين شموليتين يمكن أن تتحالفا؟!
وقلتُ له (وهذا كله على التلفزيون العُماني): أريد أن أعودَ إلى رهانكَ على الأتراك، وأين صار بعد ظهور إردوغان ونزعته الإسلاموية؟ لكنْ قبل ذلك: كيف توصلْتَ إلى المقولات الواردة في دراستك أواخر الثمانينات عن جذور الغضب الإسلامي، والتي صارت أساساً في مقولة هنتنغتون عن صدام الحضارات؟ وقال: أنا من القلة الذين لم يخلطوا بين طبيعة الإسلام - كما فعل هنتنغتون - والتطورات التاريخية. فليست هناك طبيعة عنيفة للإسلام أو لأي دين آخر. لكنّ إكراهات التاريخ وتطوراته هي التي تنصر هذا الميْلَ أو ذاك أو هذا التيار أو ذاك. والقومية اللابسة لبوس الفصام مع الآخرين أو لبوس الدين هي فكرة شريرة، سواء حملتها الأقليات مثل اليهود والأكراد والأرمن، أم حملتها شعوب كبرى مثل العرب والإيرانيين والهنود والصينيين. ولو بقي قيادُ ما يسمى بالإمبريالية في أيدي البريطانيين لما توتّرت القوميات والهويات في آسيا وأفريقيا، بحيث خربت العالم بعد التخريب القومي النازي. الأميركيون تسلموا القياد والقيادة وهم لا يحسنون الاستعمار. هم يجربون كل شيء حتى يصلوا إلى الممارسة الصحيحة أو الملائمة، لكنهم عندما يصلون لذلك يكون الخراب قد وقع، ولا يمكن إصلاحه. انظر إلى ما يحدث في العراق الآن (2008)! قلتُ في «جذور الغضب»، وفي الكتب اللاحقة إنّ الأزمنة الحديثة أطلّت على المسلمين وهم تحت وطأة الاستعمار، ويكرهون الفشل الذين هم فيه بسبب الغلبة الغربية، ويحسدون الغرب على نجاحاته، وينسبون فشلهم إلى تلك النجاحات. ولذلك ظهرت بينهم، وبخاصة العرب، نزعات التشدد والانتحارية. عندما كتب هنتنغتون مقالته في خريف عام 1993، وطوّرها إلى كتاب عام 1996، واستشهد بي وبغيري جادلْتُه دون أن أستطيعَ إقناعه. وقد دأبتُ بعد ذلك على الضرب على الوتر نفسه: التطورات التاريخية، وليس طبيعة الدين، وضرورات الإصلاح بداخل الإسلام الحديث، وليس اتهام الموروث كل الوقت، كما فعل مفكروكم اليساريون! وأعترف بأنني لم أنتظر ذلك كلّه أو لم أتوقّعه، وأنا خائفٌ من المستقبل على الغرب في الشرق، وعلى الشرق في الشرق، وعلى إسرائيل التي لم تعد رائدة. وقد سقط رهاني على الأتراك، وما توقعْتُ دولة دينية في إيران، بل حسبتُ أنه ستكون هناك محاولاتٌ لذلك فيما بين السعودية ومصر وباكستان. والغرب الأميركي عينُهُ على هذه التطورات؛ لذلك هناك المزيد من الحروب التي ستحدث، بحيث لا يعود التمييزُ ممكناً بين الفعل وردّ الفعل. وستتدخل أطرافٌ كبرى ووسطى وفي حسبانها أنها تدافع بذلك عن نفسها. أما أوروبا ربّة هذه الحضارة فقد صارت عاجزة، وهي كما سماها رامسفيلد: قارة قديمة. فخسارة العالم الكبرى اليوم هي في خسارة أوروبا.
وقلت: إذا كنتَ تعتبر تأثيرك ضئيلاً أو متضائلاً في السياسيات والاستراتيجيات، فماذا عن الاستشراق الجديد، وماذا عن الإسلاموفوبيا؟ قال: ما عاد هناك استشراق، وما اعتمد العالم الغربي والعالم بعامة أبداً على رؤى المستشرقين في معرفة العرب والإسلام. بخلاف ما زعمه سعيد. ولست مسؤولاً بالطبع عن نزعات التفكيك والنفي التي تسود الدراسات عن القرآن والإسلام، فأنا مستشرق كلاسيكي، وهذه هي كتبي في التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيها مما قاله وانسبورو وكرون وكوك. وأنا أقل مسؤولية بالطبع عن الإسلاموفوبيا، فتأثيري هو في الأوساط الأكاديمية، والإسلاموفوبيا شعبوية تبسيطية تخيف كل العقلاء، بقدر ما تخيفكم أنتم المسلمين الأصوليات العنيفة في دينكم!
بموت برنارد لويس ينتهي الاستشراق الكلاسيكي الذي صرنا ننعاه كلما مات أحد كبار دارسيه مثل هاملتون غب ومونتغومري وات. وبسبب الثورات في العلوم الاجتماعية والإنسانويات ظهرت التفكيكيات وظهر المراجعون الجدد وأصوليو ما بعد الحداثة. وفي عالم التفكيك هذا انتشرت القطائع والعصبيات والحروب الدونكيشوتية القاتلة التي يتنافس الأميركيون والروس على إثارتها ثم على محاولات إخمادها.
هل يكون الاختلال في الدراسات الأكاديمية متوازياً مع الاختلال في سياسات الدول وممارساتها؟ قد يكون ذلك وقد لا يكون، إنما هذا هو الذي حصل؛ وعلى طريقة ابن خلدون نستشهد بقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ».