يعكس فوز الرئيس نبيه بري للمرة السادسة برئاسة مجلس النواب تجذّره العميق في تربة التوازنات اللبنانية بعد «اتفاق الطائف»، بحيث بات جزءاً تأسيسياً منها وليس مجرد طرف من أطرافها.
 

والمفارقة انّ بري تمكن من الاستحواذ على الرئاسة الثانية طوال 26 عاماً متواصلة، في بلد متموّج تتبدّل فيه موازين القوى والمعادلات السياسية كفصول السنة، وتحوط به منطقة متحركة تقيم على خط الزلازل الاقليمية التي أطاحت رؤوساً كبيرة عدة خلال العقود الماضية. ليس هذا فقط، بل انّ بري لم يواجه منذ عام 1992 وحتى جلسة امس الاول منافساً حقيقياً له على رئاسة المجلس، فكان مضطراً في كثير من الاوقات الى ان ينافس نفسه، أو «شبحاً» في احسن الحالات.


في كل مرة، كان التحدي المتعلق بالرئاسة الثانية يتقلّص الى حدود السؤال عن عدد الاصوات التي سيحصل عليها بري فوق معدل الاكثرية المضمونة، أمّا الفوز فهو مؤكد و»مكفول» الى درجة شعور صاحبه بـ»الملل» أحياناً. ولعلّ بري أصبح يحتاج، قبل المتحسسين منه، الى مرشح «جدي» يضفي بعض الحيوية على العملية الانتخابية ويستطيع بالحد الأدنى ان يشاغب قليلاً، بغية كسر»الروتين» المزمن.


والمفارقة الأخرى، انّ بري يبدو حاجة لمعظم خصومه كما لحلفائه، بعدما استطاع إنتاج «وظيفة حيوية» له في الحياة السياسية اللبنانية، حوّلته ممراً إلزامياً لكل شأن عام مهما كان وزنه، من القرارات الكبرى الى تعيين حاجب في أصغر إدارة.


لقد تمكن رئيس المجلس من ان يبتكر دوراً مركّباً لا يشبه غيره:


هو المنحاز - المحايد، او الوسطي - المتلزم. متطرف في خياراته الاستراتيجية ومعتدل في سلوكه السياسي. رئيس حركة «أمل» وركن من أركان النظام. متحمّس لإلغاء الطائفية ومتشدد في حماية حقوق الشيعة ما دامت قواعد التقاسم الطائفي للسلطة سارية المفعول. حليف استراتيجي لـ»حزب الله» وطهران ومنفتح على السعودية والإمارات. رأس حربة في المواجهات المفصلية وصاحب «مزرعة أرانب» متخصصة في إنتاج التسويات وصيانتها. يعترض على محاولات إنتاج ثنائية سلطوية بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، لكنه يبقي الجسور ممدودة مع عون ويسمّي الحريري لرئاسة الحكومة انطلاقاً من الاعتبارات الميثاقية التي يراعيها.


بهذا المعنى، لم يعد نبيه بري مجرد لاعب محترف يجيد التمرير او التسديد فحسب. لقد اصبح ضلعاً من أضلاع الجمهورية الثانية وواحداً من قلائل يملكون «شيفرة» منظومتها المعقدة، بل انه كثيراً ما يبدو بمثابة «المفتي السياسي» لتلك الجمهورية.


تختلف دوافع خصومه في «الاعتراف» بحتمية بقائه في رئاسة السلطة التشريعية حتى إشعار آخر، وغياب البديل الذي يمكن الرهان عليه. البعض يستسلم مُكرهاً لحقيقة انّ الطائفة الشيعية لا تزال تمنح بري تفويضاً وحصانة يحولان دون تجاوزه، والبعض الآخر تروق له لعبة الكر والفر معه على قاعدة «الخلاف الآمن»، والبعض الثالث ينظر اليه في اعتباره «أهون الشرّين» بالمقارنة مع «حزب الله» فيتقبّله نكاية بالحزب وليس حبّاً به، وهناك من يجد فيه ضماناً كيانياً وصمّام أمان بمعزل عن الخلافات الداخلية على طريقة إدارة شؤون الدولة.


امّا الحلفاء، فلهم مع رئيس المجلس قصة أخرى. حين تدقّ ساعة المواجهة المصيرية يكون الى جانبهم وأحياناً أمامهم، وحين يأتي أوان التسوية يلوذون إليه ويستعينون به. هو «نافذتهم» على «الآخر» عندما تقفل الابواب، والمفاوض الموثوق لتحصيل المكاسب أو لحصر الخسائر عندما تلتئم طاولة المقايضات.

 

والمثال الأبلغ على هذا التناغم في الادوار يكمن في تجربة التحالف الوثيق بين رئيس حركة «أمل» و»حزب الله»، وليس خافياً انّ كلّاً من بري والسيد حسن نصرالله ساهم بجهد شخصي في تكريس هذا التحالف وتطويره، بعدما أدركا أهميته وحيويته سواء على مستوى تحصين وحدة الصف الشيعي او تحسين شروط حضوره في الدولة.


... وفي الولاية السادسة، يجد بري نفسه أمام مسؤولية المحافظة على الرصيد المتراكم وزيادته. قد تكون هذه الولاية هي الأصعب والأدق بالنسبة اليه، خلافاً للانطباع السائد عند كثيرين ممّن يفترضون أنّ خبرة رئيس المجلس باتت تسمح له ولمناصريه بألّا يقلقوا.


سيواجه بري منذ الآن تحدي التجدد بعد مرور 26 عاماً على رئاسته للسلطة التشريعية، حتى لا تغدو ولايته الإضافية اجتراراً لِما سبق. وسيكون عليه في الاعوام الاربعة المقبلة ان يضيف جديداً الى «سيرته الذاتية»، وان يدفع نحو تحقيق إنجازات تعوّض عن جفاف المجلس السابق. يدرك بري دقة هذا الاختبار، وهو يتطلّع الى بلوغ إنتاجية تعادل او تفوق تلك التي حقّقها مجلس 1992 الذي كان الأكثر خصوبة على المستوى التشريعي، على رغم من انّ «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» قاطعا آنذاك الانتخابات التي أفرزته.


وعليه، هل يكون بري السادس... كأنه الأوّل؟