تنافسَ في الانتخابات العراقية الأخيرة 204 أحزاب على 329 مقعداً برلمانياً، وكان تحالف «النصر»، بقيادة حيدر العبادي، في المقدمة وفق استطلاعات الرأي الرصينة، وكان كثيرون متيقنين من فوزه، لكن النتائج اختلفت كثيراً عن التوقعات، إذ جاء «النصر» ثالثاً، بعد «سائرون» بقيادة مقتدى الصدر و «الفتح» بقيادة هادي العامري، ولأول مرة ينتصر المعارضون على الحاكمين سلمياً في العراق.

وأهم سبب لتراجع «النصر» هو عزوف الناخبين المؤيدين للعبادي عن التصويت، إذ انحدرت نسبة الإقبال إلى 44.5 في المئة، وهي نسبة متدنية إن قورنت بسابقاتها، إذ بلغت 78 في المئة في الانتخابات الأولى والثانية عام 2005 متراجعة إلى 63 في المئة عام 2010 و52 في المئة عام 2014.

فلماذا يا ترى تقاعس الناخبون عن نصرة العبادي، وهو الوحيد الذي يحق له التحدث عن إنجازات حقيقية مثل إنقاذ العراق من تفكك وشيك وشح مالي قاهر وعزلة دولية خانقة؟ لماذا لم يمنح الناخبون العبادي تفويضاً جديداً، علماً أن الجميع، بمن فيهم خصومه، يشيدون بأدائه وإنجازاته ونزاهته؟

يبدو أن هناك قدراً كبيراً من «الرضا عن النفس» بين أنصار العبادي الذين توقعوا أنه سيفوز ولن يحتاج إلى أصواتهم، فبقوا في منازلهم بدلاً من الذهاب إلى مراكز الاقتراع. ويرى آخرون أن العراقيين محبطون بسبب توالي الإخفاقات منذ بدء العملية الديموقراطية، لذلك شعروا بأنهم مهما فعلوا لن يغيروا الوضع القائم لأن «الوجوه القديمة ستعود»، وهذا الرأي سائد بين معظم العراقيين.

لا شك في أن هناك استياءً بين العراقيين من الطبقة السياسية المهيمنة منذ عام 2003 والتي اتسمت بالجشع والنهم والتكالب على السلطة والمال والنفوذ، بالإضافة إلى فساد كثير من قادتها وغياب الكفاءة والنزاهة بين صفوفها، ما تسبب في تفاقم المشاكل وتراكمها. لقد انسحب الاستياء الشعبي على جميع المشاركين في العملية السياسية، سواء في الحكومة أو خارجها، فقد اعتبر الناس كل سياسي فاسداً ومسؤولاً عن التدهور، فلم يصوتوا حتى للداخلين الجدد مثل غسان العطية.

وسائل الإعلام العراقية، معظمها حزبي أو شخصي يدار وفق مزاج المالك، لم تتمكن من نقل الصورة الحقيقية للناخب وإقناعه بأهمية المشاركة. أداء إعلام الدولة ما زال متدنياً، إذ بقيت المؤسسة في فوضى عارمة منذ تأسيسها، ولم يتولَ إدارتها ذو خبرة في الإعلام والإدارة، بل ظلت ضحية للأهواء والتقلبات السياسية. وخلال العام الأخير، تعاقب على إدارة شبكة الإعلام أربعة مديرين، وخلال ثلاثة أشهر، أقيل المدير وعُين آخر محله ثم أقيل وعُين ثالث ثم أقيل ليعود المدير السابق. في العادة، تصطف الشبكة مع الحكومة، لكنها لم تفعل هذه المرة لأن العبادي لم يتدخل في شؤونها.

ظل الفساد الصفة السائدة لأداء الدولة، فلا يستطيع المرء أن ينجز أي عمل أو يحصل على منفعة أو وظيفة إن لم يسلك طرقاً غير مشروعة كتقديم الرشاوى أو الانتماء إلى أحد الأحزاب المتنفذة. لقد استاء العراقيون كثيراً من هذا الظلم الذي يطابق ما كان يحصل أيام النظام السابق، الذي لم يسمح لأحد بالعمل أو العيش بحرية وكرامة إن لم يكن موالياً لـ «القائد الضرورة» ومنتمياً إلى حزب البعث. وعندما يتولى مسؤول إدارة مؤسسة فإنه يُقصي أو يُهمِّش كل من لا ينتمي إلى حزبه، ويفرض أتباعه وأقاربه على المؤسسة. في إحدى الوزارات التي عملت فيها، أقصى الوزير الجديد تسعة مديرين عامين، من مجموع 11، واستبدلهم بأتباعه وأقاربه، بينما صمت رئيس الوزراء كونه محتاجاً إلى دعمه لاستمرار الحكومة.

ويقع اللوم الأكبر في فشل العملية الانتخابية الأخيرة على مفوضية الانتخابات التي لم تحظَ بثقة الناخبين لأنها غير مستقلة بل تمثل الأحزاب التي عينتها. لم تتقن المفوضية عمل الأجهزة الإلكترونية التي يفترض أنها تضمن خلو العملية من التزوير، كما حَرَمَت آلاف الناخبين من التصويت، بمن فيهم مرشحون، كالدكتور أمير المختار، بحجة أنهم غير مسجلين. في البصرة مُنع شيخ قبيلة تميم، مزاحم الكنعان، من الترشح بقرار من هيئة المساءلة والعدالة، لكنه تمكن من إلغاء القرار، ففاز بعد إدراج رقمه من دون اسمه في قائمة التصويت، لكنه استُبدل لاحقاً بمرشح آخر رغم فوزه.

هناك ثورة غضب عارمة في كردستان بسبب فوز حزبَي «بارتي» و «يكتي» في الانتخابات على رغم تدني شعبيتهما في الشارع، ما أثار استياء الأحزاب المعارضة الخمسة في الإقليم التي هددت بالتصعيد. وفي كركوك، اتُّهِمت المفوضية بالتواطؤ مع حزب «يكتي» المتهم بالتزوير على حساب المرشحين العرب والتركمان. كما اتهمها أحد أعضائها، سعيد كاكائي، بالسماح بالتزوير وطالب بالعد اليدوي بنسبة 25 في المئة. الأمم المتحدة هي الأخرى انتقدت عمل المفوضية لتعاقدها مع شركة «ميرو» الكورية لتوريد أجهزة العد الإلكترونية، التي تحوم حولها شبهات فساد. وقال الدكتور أمير آراين، رئيس الفريق الدولي لدعم الانتخابات، في رسالة إلى المفوضية، إن «ميرو» لم تتعاون في توضيح كيفية عمل الأجهزة، ووصف تعاملها بأنه «لا يبشر بخير ولا يعطي انطباعاً عن صدق وانفتاح الأطر التي تعمل بموجبها منظومة شركة ميرو».

هناك الكثير مما يُلام عليه السيد العبادي أيضاً، فالزعامة السياسية تحتاج إلى الحماس للخدمة والاستعداد لها بكل الوسائل المشروعة، لكنه لم يستعد على ما يبدو، بل افتخر في مقابلة تلفزيونية أخيرة بأنه أبقى على الطاقم الإداري والإعلامي السابق! بينما كان عليه أن يأتي بطاقم كفوء ويبذل جهوداً أكبر للترويج لنهجه السياسي وإقناع المترددين. كما عجز العبادي، ومعه قيادة حزب «الدعوة»، عن توحيد صفوف الحزب المنقسم، ما كلفه الكثير من الأصوات الضائعة التي توزعت بين قائمتين. الكتل السياسية الفائزة عادت الآن للحديث عن التوزيع الطائفي للمناصب ولا نسمع سوى الحديث عن «المكونات» وحصصها في الحكومة المقبلة. لقد وعد العبادي بأنه لن يشارك في حكومة محاصصة، ولكن كيف وهو في حاجة إلى دعم الكتل الأخرى المصرة على المحاصصة؟ عزوف الناخب تسبب في كارثة سياسية وهي إعادة انتخاب معظم الزعامات السابقة، بمن فيها الفاسدة، ومن غير المتوقع أن يتمكن القادمون الجدد من أن يغيروا كثيراً، لذلك من المستبعد أن نرى تغيراً كبيراً في سلوك الطبقة السياسية إن لم تبقَ حركة الاحتجاج مستعرة للضغط عليها لتغيير سلوكها.