"الوقت سيخبرنا يوماً بكل ما فعلناه وبكل ما لم نفعله" 

(هارفي فيرستاين، ممثل وكاتب)

كشفت الانتخابات النيابية بحملاتها ومهرجاناتها وشعاراتها ولوائحها عن موت السياسة بمعناها النبيل في لبنان، كما كشفت عن ضحالة الرؤية السياسية المستقبلية للقضايا الشائكة والمصيرية التي هي في أساس إنقسام اللبنانيين.

فالشعارات التي ضاقت بها الشوارع في المدن والقرى بما يشبه الاحتلال للفضاء العام، وأغدقت الوعود بمكافحة الفساد وتعزيز الانماء والوفاء والحماية والقوة والبناء واستعادة حقوق الطوائف، وفاضت رقة وحناناً على الشعوب اللبنانية في الوطن والمهجر، جاءت في غالبيتها خشبية جامدة غير موصولة بعصب الحياة اليومية، شبيهةً بطرائف الروزنامات، وفاقدة لأي معنى سياسي، كما تحاكي الانتخابات البلدية في إثارة قضايا الماء والكهرباء والنفايات، كأنّ وظيفتها تثبيت الوراثات وتأبيد الأوضاع القائمة.

مواضيع ذات صلة
بري دعا المنتشرين والمغتربين للمشاركة في الإنتخابات النيابية: بادروا للتسجيل قبل 21 تشرين الثاني
 
الاشتباك الانتخابي هدأ... على زغل
 
الانتخابات النيابية قبل نهاية 2017: خيارٌ قابلٌ للتطبيق أم لا؟
فالطبقة السياسية الحاكمة التي دارت رحى المعارك في ما بينها، شهدت تبدلات إنتخابية عند تشكيل اللوائح ورسم التحالفات، حيث بات الخصم حليفاً في مكان والحليف خصماً في مكان آخر، فكانت تعلن بالفم الملآن موت السياسة في لبنان، ولا سيما في ظلّ إقصاء المستقلين والخارجين عن التكتلات الحزبية، في عملية إنكار للذاكرة الفردية والجماعية القريبة منها والبعيدة، بعدما تمّ السطو من خلال التجييش الطائفي والمذهبي والعشائري على كل ما هو مشترك وحقيقي وواعد.

اعتمدت هذه الطبقة خطاباً شعبوياً إنفعالياً، بحيث انكشفت إيقونات وسقطت هالات، كما اعتمدت خطاباً إلغائياً لا يرتكز على التواصل والحوار والتفتيش عن المساحات المشتركة. إذ انحصر الهم في تدمير الخصم وإبقائه في موقعه الماضوي، وتكفير كل اختلاف، إضافةً إلى تخوين كل الخوارج على أدبيّات السياسات السائدة وعلى الزعامات الطائفيّة. فالحملات الإنتخابيّة في غالبيّتها السّاحقة، اعتمدت لغّة عنيفة غلب عليها الصراخ وشدّ العصب وسوء المزاج وقاربت الشتيمة؛ لغة اعتمدت نبش القبور واستحضار ويلات الحروب وشهدائها، فبدت الإنتخابات كأنها تؤسس لحروب أهلية جديدة بين الأحزاب والطوائف وداخل كل طائفة ومذهب. لكأن كل طائفة لا تتسع إلا لزعامة واحدة، وكل منطقة لا تتسع إلا للونٍ واحد وراية واحدة وزعيم واحد. ترافق ذلك كله مع حرمان الناخب من الإختيار ضمن اللائحة المقفلة، ومع تهافت الرفاق المتحالفين على التذابح في ما بينهم للفوز بنعيم الصوت التفضيلي، مما أدّى إلى طغيان الأعداد على السياسة، في هروبٍ متعمّد من وظيفة الإنتخابات في المساءلة والمحاسبة وتجديد النخب والخطاب السياسيّ وإيجاد ديناميّات سياسية جديدة.

في العودة إلى الحملات الإنتخابيّة، فقد استبيحت كل المحرّمات الماليّة والسلطويّة والدعائيّة، فاقتحمت المشهديّات الإحتفاليّة الضخمة مختلف المدن والقرى من خلال وسائل الإعلام التي لم تراعِ المساواة وتكافؤ الفرص بين المتنافسين، ومن خلال مواقع التواصل الإجتماعي التي أدّت أسوأ أدوارها، إمّا في تأليه القادة المعصومين عن الخطأ وإمّا عبر التجريح الشخصيّ والتحقير وبثّ الأحقاد والسّموم، وإمّا عبر الإستهزاء بالآخر المختلف، ممّا أدّى إلي تدميرٍ منهجيّ للنسيج الإجتماعيّ والوطنيّ وأدبيّات الحياة المشتركة، وترك ندوباً في العلاقات الإنسانية الّتي أضحت بحاجة إلى وقت غير يسير للشفاء منها. بدا ذلك كله أشبه بكوميديا سوداء أكثر منه انتخابات نيابيّة لتجديد الحياة السياسية.

كما أدت هذه الإنتخابات إلى انكشاف رموز الطبقة السياسية فبدت كأنها تخوض انتخاباتها للمرة الأولى عبر استجداء الناخبين واستعطافهم، باللعب على غرائزهم وحاجاتهم. فمن يقرأ الشعارات التي كانت تذيّل صور المرشحين في تلوث بصري خانق على الأعمدة وواجهات المنازل والشواطئ، يحسّ بأن المرشحين من هذه الطبقة كانوا على سفر أو اغتراب وبأنهم يكتشفون مناطقهم وناخبيهم وأزمات بلادهم للمرة الأولى، وكأن لا ناقة لهم ولا جمل في انقطاع الماء والكهرباء وطمر البلاد بالنفايات وارتفاع أكلاف المعيشة، وكأن لا دور لهم في دفع الشباب إلى الهجرة، وكأن قوة خفية قد منعتهم من ترتيب حياة اللبنانيين عندما كانوا في سدّة المسؤوليّة.

كما كشفت الإنتخابات عن شبق للوجاهة المحليّة، تساوى فيه المعمرون والمخضرمون، وذلك عبر السيل الجارف من الترشيحات التي لا تدل على الحياة الديموقراطية بمقدار ما تدلّ على استسهال واستخفاف بالموقع النيابي وبدور النائب. فالثقافة السياسية السائدة عندنا تعطي النائب في لبنان أهمية قد لا نجدها في أي بلد آخر، وفي سبيل الحصول على الموقع قد تُبذل الكرامات والأرواح وملايين الدولارات، لأن النائب في لبنان هو خارج عن أي مساءلة سواء حضر أم غاب. فالنيابة هي سلطة ووجاهة وسبيل إلى الإثراء السريع إضافةً إلى المعاش التقاعديّ الأبديّ السرمديّ. وإلا فما معنى كل هذا الإنفاق الذي يفوق كل تصوّر؟ إذ كشفت الانتخابات عن فحش أخلاقيّ، عبر ضخّ هذه الكميات الهائلة من الأموال على الإعلان والإعلام ورشوة الناخبين واللعب على ضائقتهم الإقتصاديّة، في بلد يعاني من دين عام يقارب المئة مليار دولار، وفي وضع اقتصادي يلامس حافة الإنهيار، إضافةً إلى تهافت عشرات رجال الأعمال والمتمولين على دخول جنة اللوائح على حساب الحقوقيين والمشرّعين، مع العلم أنه لو تمّ توظيف قسم من هذه الأموال على تنمية المناطق لكنّا شهدنا فورة إنمائية هائلة.

لعلّ الإنكشاف الأعظم، هو انكشاف عورات الشعب اللبناني بالصوت والصورة؛ انكشاف التبعيّة العمياء والخوف من التغيير، انكشاف تنكّر الجماهير لأوضاعهم المعيشيّة من بطالة وفقر. فالجماهير التي كانت تهدر في الشوارع والساحات "بالرّوح بالدّم نفديك يا..."، قد تناست هموم القسط والرغيف والمسكن والدواء وكساد المواسم الزّراعيّة ومزاحمة اليد العاملة الأجنبيّة، إذ كانت مأخوذة بالخطابات والشّعارات وهمّ القضاء على الخصوم بالضربة القاضية، "كالقط الذي يلحس المبرد"، متلذذة بتذوق دمائها، ولم تقتصر الحماسة على الجماهير وحدها، بل دفعت بأطفالها إلى الشّوارع في هذا الكرنفال الكبير بما يشبه تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة، عدا حماسة النساء اللواتي لم يجدنَ إلى اليوم حلّاً تشريعيّاً وإنسانيّاً مقبولاً للزواج المبكر وللعنف الأسري والحقّ في الجنسية.

ربّ متسائلٍ عن مصير أصوات مئات الآلاف من المقترعين الجدد، إلى أين ذهبت ما دامت الشكوى من الطبقة السياسية هي الغالبة.

زد على ذلك، انكشاف عورات القانون الإنتخابي بجمعه ما لا يُجمَع من نُتفٍ وأفكار لخدمة التحالفات والتسويات القائمة، وبنسبيته المشوّهة إما عبر اللوائح المقفلة والصوت التفضيليّ وتقسيم الدوائر الإنتخابيّة، وعدم تحديد سقف الإنفاق الإنتخابيّ، وإما عبر شلل هيئة الإشراف على الإنتخابات والتقصير في تدريب رؤساء الأقلام والمندوبين ونسبة الأوراق الملغاة دليل على ذلك، وإما عبر عدم حياديّة السلطة المشرفة، بانخراط العديد من الوزراء في الحملات الإنتخابيّة، وسوء استخدام السلطة والتأثير في حرية الناخبين بالترغيب والترهيب ومحاولات تزوير بعض النتائج.

كما انكشفت عورات "المجتمع المدني"؛ هذه التسمية التي فقدت رونقها في الزحام الإنتخابي، بحيث بات كل من لم يجد له مكاناً في لوائح السلطة يدّعي بأنه من "المجتمع المدني" في الوقت الذي أظهرت فيه القوى المدنية البديلة تشرذماً وضعفاً عائداً إلى غياب الهويّة السياسية الواضحة والخطاب السياسي الواضح وإلى هشاشة الإطار التنظيمي العابر للإصطفافات، ومركزيّة الحراك المدني في العاصمة ومحاصرة قوى الأمر الواقع لهذه القوى، وطغيان الكميّة على النوعية في الترشيحات وذلك باستسهال خوض الإستحقاق بمن حضر. أضف إلى ذلك بروز بعض التنظيمات الحزبية الجديدة التي طغى الطابع الإستعراضي على عملها بمعزلٍ عن الهويّة والفاعلية والتاريخ الميداني للمرشحين، فغدا "المجتمع المدني" إسماً ملتبساً تتلطّى أحياناً تحت لافتته أنانيّاتٌ وتسابقٌ على حب الظهور وحجز مكان في الحيّز العام، إضافة الى إلتحاق بعض الرموز بالطبقة السياسية التي لهم في هجائها مطوّلات.

لكنّ ذلك كله لا ينتقص من قيمة بعض الرموز التي لها تاريخها في النضال وخطابها النظيف، والتي أدّى تشرذم القوى التغييريّة إلى تركها وحيدة في مواجهة القمع وحيتان المال والسلطة.

لعلّ المحزن والمحبط في كل هذا السياق، تحويلنا نحن المواطنين إلى حواصل إنتخابيّة، أي إلى أرقامٍ وأعداد جامدة وخالية من المشاعر والحياة. إذ ليس المهم مَن يتحالف مع مَن، ومَن يتنافس مع مَن، بل كيفيّة تأمين الأعداد الكافية للفوز. من هنا جاءت التّحالفات هجينة عند الغالبيّة بخطابٍ مفكّك وعلى القطعة وغير واضح، مع محاولة التوفيق بين المتناقضات لجمع حواصل، والإبتعاد عن الهموم الكبرى من أجل عدم التسبّب بنقزةٍ بين المتحالفين.

هكذا كشفت الإنتخابات النيابية عورات المجتمع اللبناني وأمراضه، وإعاقات الحياة السياسية في لبنان، من دون أيّ وعدٍ بالشفاء منها، إذ عاد كلّ شيء إلى مكانه ما عدا قلّة قليلة من الوجوه الواعدة. فحتّى الوجوه الجديدة قد حملتها التكتّلات الحزبيّة القديمة، لذا بدت شعارات مكافحة الفساد والإنماء والقوة والبناء والتغيير واستعادة الحقوق، مزحة سمجة.

هنا لا بدّ من السؤال بعد هدوء الخواطر (هذا إذا كانت قد هدأت):

ماذا سيفعل الناخبون بالفواتير المستحقة؟

ماذا سيفعلون لمنع أولادهم من الهجرة؟

ماذا سيفعل المزارعون؟

ماذا سيفعل الصناعيّون؟

وكيف سيتم التصدّي للفساد وهدر المال العام؟

وما هي خريطة الطريق لبناء الدولة القويّة والقادرة؟

أغلب الظن أن المتذمّرين سيظلون قابعين في شكواهم وحرمانهم، وأهل السلطة في نعيمهم. وعلى رغم ذلك كله، فإن إجراء الإنتخابات خيرٌ من عدم إجرائها، والنسبية ولو كانت مشوّهة تبقى أفضل من سواها، ومحمّلة فرص التّغيير.

وعلى رغم ذلك كله أيضاً، نحن فرحون بتحرير الفضاء العام من الوجوه والإبتسامات الصفراويّة والشعارات الخشبيّة ولو عبر استبدالها بإعلاناتٍ عن الملابس والبياضات ومساحيق التجميل وألبومات المغنّين. فقد أحسسنا أن شيئاً ما قد تغير وتبدّل في الشوارع مع انهماك الجميع في العدّ والقسمة والطرح والجمع وتوزيع المغانم.

لقد قبلنا بنتائج هذه الإنتخابات، فرجاؤنا أن يعفينا الرابحون من شحذ الهمم من جديد ومن نبش قبور الموتى ونشر ثقافة الكراهيّة والإنقسام.

فالوقت حتماً سيخبرنا بما فعلوه هم، وبما لم نفعله نحن. 

(أنطوان الخوري طوق)