عندما صدرت مراسيم تشكيل الحكومة الحالية في 18 كانون الأول 2016، كان متوقعاً أن تجابه صعوبات جمّة بالنظر الى حجم المشكلات التي يعانيها البلد وقد فاقمها خلو سدة رئاسة الجمهورية لسنتين ونيّف مع ما رافق ذلك من مماحكات وتأزمات سياسية أضعفت الثقة بلبنان من قبل اللبنانيين أنفسهم ومن قبل الآخرين.

لذلك، لم يكن بلا دلالة أن يطلق الرئيس سعد الحريري على حكومته الثانية هذه اسم حكومة «استعادة الثقة»، لأنّه ومن دون استعادة الثقة بلبنان دولة واقتصاداً وأمناً لم يكن ممكناً للحكومة الجديدة أن تعمل وأن تخرج لبنان تدريجاً من مرحلة الفراغ الرئاسي التي لو استمرت مدّة أطول لكانت أتت على البلد بعواقب وخيمة كان اللبنانيون قد بدأوا بتلمّس خطورتها، لا سيّما في ظلّ تراجع النمو الإقتصادي وتفاقم أزمة النازحين السوريين التي تضع البلد على تماس مع الحرب السورية وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية على مجمل الوضع اللبناني.

مع ذلك، فإنّ حجم الصعوبات والضغوط التي واجهتها الحكومة الحالية كانت أكثر من المتوقّع، لا سيّما بعد أزمة استقالة الرئيس الحريري التي أعادت الى الواجهة حجم التحديات السياسية التي يجابهها لبنان في ظل التأزم السياسي والعسكري في المنطقة وانعكاساته بطبيعة الحال على الواقع اللبناني.

من هنا لا ريب في القول إنّ الحكومة الرابعة والسبعين بعد الاستقلال التي انتهت ولايتها متنصف ليل أمس وشرعت في تصريف الأعمال، كانت أكثر الحكومات اللبنانية تعرضاً لضغوط سياسية وإقتصادية، في ظلّ محيط إقليمي متفجر على نحو غير مسبوق. وعليه كان أمام حكومة «استعادة الثقة» ومنذ لحظة تأسيسها تحدّيان إثنان، الأول تحدٍ سياسي يتمثل في القدرة على إدارة الاختلافات السياسية بين مكوناتها بما يسمح بالحفاظ على تماسكها. أمّا التحدي الثاني فمن طبيعة إقتصادية وإنمائية وإدارية يتمثل بالقدرة على تسيير عجلة الإدارة بعد ما يزيد عن السنتين من الاختلال والشغور في مناصب عديدة، وبتحفيز النمو الإقتصادي عبر جذب الإستثمارات وخلق فرص عمل، ناهيك بمعالجة الملفات المطلبية العالقة وأهمها سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام. هذا فضلاً عن مواجهة الحكومة أزمة أمنية خطيرة متمثلة بالخلايا الإرهابية الكامنة منذ سنوات في جرود لبنان الشرقية.

وبالتالي لم يكن من السهل على هذه الحكومة التي دخلت مرحلة تصريف الأعمال أن تجتاز كل هذه العقبات وتنجز ما انجزته خلال نحو 17 شهراً من عمرها، بدءاً من «التعيينات العسكرية والإدارية والتشكيلات القضائية والديبلوماسية فضلا عن التجديد لحاكم مصرف لبنان ووضع حد لمحاولة استهداف الليرة والوضع النقدي، واستكمال - ولأول مرة منذ إنشائه - المجلس الاقتصادي والاجتماعي». كما اقرت الحكومة «قانون انتخاب جديداً، وسلسلة الرتب والرواتب وأنجزت موازنة للدولة للمرة الأولى منذ 12 سنة، ووضعت (استخراج) النفط والغاز على السكة وانضمت لاتفاقية الشفافية الدولية في هذا القطاع». كما وضعت موازنة العام 2018، قبل أن تُجري الإنتحابات التشريعية بعد انقطاع لتسع سنوات، فضلاً عن مواكبتها السياسية لتحرير الجرود الشرقية من الخلايا الارهابية في صيف 2017.

وإذا كان نجاح الحكومة في التحدي السياسي الذي فرضه عليها منذ اللحظة الأولى لتأليفها التأزم الاقليمي وارتداداته على الساحة اللبنانية، يحسب لمكوناتها على اختلافهم، فإنه يحسب بالدرجة الأولى للرئيس الحريري الذي نجح في إدارة التناقضات السياسية داخل حكومته الثانية، لا سيما بعد استقالته وما تلاها من إعلان حكومي للنأي بالنفس كان الشرط الأساسي لعودته عنها.

كذلك فإن تحدي الإنجاز الإداري والإقتصادي الذي كان ينبغي على الحكومة التصدي له لم يكن اقل اهمية من التحدي السياسي الذي وجدت نفسها في مواجهته منذ تأليفها. لا بل يمكن القول إن هذين التحديين كانا شديدي الترابط واحدهما بالآخر، بمعنى أنه لم يكن ممكناً ان تنجح الحكومة في تحدّ من الإثنين وتفشل في الآخر. فإما أن تنجح فيهما معاً وإما أن تفشل في كلاهما.

من هنا جاءت كلمة الرئيس الحريري في افتتاح جلسة مجلس الوزراء الخميس الماضي كتقييم موجز لمسيرة حكومته الثانية وذلك بقوله إن «الحكومة التي ستدخل مرحلة تصريف الاعمال حققت انجازات عديدة بوجود الرئيس (العماد ميشال) عون وحصول توافق سياسي»، مشيرا الى ان «كل الانجازات التي تحققت جاءت بالتوافق السياسي دون أي تدخل من هنا أو هناك». أي أنّ الرئيس الحريري يربط بين الإنجازات التي حققتها الحكومة الحالية وبين «التوافق السياسي»، وهو يؤشر في الوقت نفسه إلى حتمية التوافق السياسي في المرحلة المقبلة كشرط لاستنهاض الاقتصاد اللبناني وحماية لبنان من أي تداعيات للأزمات العديدة والخطيرة من حوله.

وفي الواقع تكفي نظرة سريعة إلى أحداث وتطورات الإقليم للتأكد من أنّ ما ستواجهه الحكومة الجديدة ليس اقلّ اهمية مما واجهته الحكومة الحالية التي انقضت ولايتها الدستورية للتو.. ولذلك يتبدى من أجواء اللقاءات السياسية خلال الأيام القليلة الماضية سواء اللقاء بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري في قصر بعبدا الثلاثاء الماضي أو بين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع والرئيس الحريري في «بيت الوسط» ليل الثلاثاء الماضي، الحرص على تزخيم المسار السياسي والدستوري المفضي إلى تأليف الحكومة في أسرع وقت ممكن بغية تعزيز مناعة لبنان بوجه تطورات المنطقة ومواكبة التحديات الاجتماعية والاقتصادية في الداخل اللبناني والتي ما عاد من الممكن التراخي في التصدي لها. لا سيما وأن الدولة اللبنانية مضطرّة إلى استكمال الاصلاحات الإدارية والتشريعية والضريبية المطلوبة منها لكي تستطيع الإفادة من نتائج مؤتمر «سيدر 1»، التي يؤمل أن تعود بالنمو على الإقتصاد اللبناني.

وهو ما عكسه النداء الذي وجّهه البطريرك الماروني بشارة الراعي، من قصر بعبدا أمس، إلى الكتل النيابية والمسؤولين «للإسراع بتشكيل حكومة»، مشيرا الى «رغبة الرئيس عون ألّا يكون هناك من عراقيل بوجه تأليف الحكومة التي ستتشكل، والتي يجب الا تكون حكومة عادية بل على مستوى التحديات التي يواجهها لبنان». وهو ما كان جعجع قد ذهب إليه من «بيت الوسط» بقوله إنّ «المطلوب حكومة بانطلاقة جديدة، ليتمكن لبنان من الخروج ممّا هو فيه». أي أنه وعلى أهمية ما انجزته الحكومة الحالية إلا أنّ المطلوب من الحكومة المقبلة لا يقل أهمية عما انجزته الحكومية الحالية، خصوصاً لناحية الشروع في ورشة الإصلاحات. وهذا أمر ليس بالهيّن على أي حكومة في ظل ظروف سياسية طبيعية، فكيف في ظلّ ظروف سياسية بالغة الدقة كالتي يعيشها لبنان على وقع التطورات الإقليمية والدولية؟!