حتى الآن لم يتعدَّ تأثير العقوبات الجديدة على مسؤولي «حزب الله» إطارَه المعنوي، فهي ليست «العقوبات» الأولى على أفراد منه، وسبق أن تمّ استيعاب آثارها وبالتالي تجاوزُها.
 

حتى الآن يبدو المقصود من «الدفعة» الجديدة للعقوبات توجيه رسائل متعددة الى «حزب الله»، تبدأ من الساحة الاقليمية، وتحديداً السورية، وتنتهي في الساحة اللبنانية وهي المقصودة أساساً من رسائل العقوبات.

فما إن أُعلنت نتائج الانتخابات النيابية حتى بادرت الاوساط الديبلوماسية العربية الى وضع استنتاج واحد: «حزب الله» حقّق انتصاراً كبيراً داخل المجلس النيابي. وحتى في كبريات الصحف ووسائل الاعلام الاميركية كانت التعليقات متشابهة حيال الاستنتاج بأنّ «حزب الله» هو الذي فاز، ومن دون الاشارة الى أيّ فريق آخر.

في الداخل اللبناني، القوى والأحزاب في جدل التعداد بمنطق بسيط قارَب السذاجة في بعض الاحيان. ووفق التعداد اللبناني فإنّ كتلة «الوفاء للمقاومة» حصلت على 14 مقعداً نيابياً، امّا في التعداد الديبلوماسي الغربي فإنّ كتلة «حزب الله» النيابية بلغت 25 أو ربّما 50 نائباً. ووفق هذه القراءة القريبة أتت الدفعة الجديدة للعقوبات، والأهمّ السعي الى عدم ترجمتها حكومياً.

وعشية الانتخابات أعلنَ «حزب الله» صراحةً نيتَه تعديلَ سلوكه السياسي من خلال الحكومة لناحية تفعيل دوره الرقابي والانخراط بنحوٍ فاعل في الحكومة.
وقد تكون إحدى رسائل «العقوبات» الأخيرة لجم اندفاعةِ الحزب في اتجاه العمل الحكومي، وتحديداً في اتجاه الحقائب الحساسة.

البعض يعتقد، أو ربّما يتمنّى، أن تكون ضغوط واشنطن هادفةً الى عدم إشراكِ «حزب الله» في الحكومة المقبلة. لكن لو كان ذلك صحيحاً لكان «حزب الله» سمعَ من الرئيس سعد الحريري ما معناه انّه يتلقّى ضغوطاً اميركية لعدم اشراكه في الحكومة. حتى الآن هذا لم يحصل، ولو انّ البعض يدعو الى التريّثِ لحين تسمية الحريري لرئاسة الحكومة المقبلة.

لكنّها ليست هذه المرّة الاولى التي يدخل فيها «حزب الله» الى الحكومة. صحيح انّ الموقف الاميركي المعلن كان يقتصر على عدم الاعتراض، إلّا أنّ العارفين يقولون إنّ الديبلوماسية الاميركية كانت تريد إشراكَ «حزب الله» في الحكومة ولكن بدورٍ محدود بغية ضمانِ الاستقرار السياسي، وحين غاب «حزب الله» مع المكوّن الشيعي عن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة اهتزّ الاستقرار في لبنان وكادت البلاد تذهب في اتجاه الاقتتال الداخلي مجدّداً.

ما يعني انّ الارجح هو أنّ مضامين الرسائل الاميركية تهدف الى استيعاب نتائج الانتخابات واستباق شهية «حزب الله» لانخراطٍ كامل في اللعبة الحكومية. لكنّ هذا لا يمنع انتظار المشاورات التي سيجريها الحريري بعد تكليفه، فرئيس الجمهورية نفسُه تحدّث بعد الانتخابات عن حكومة جامعة، بعد أن كان اشار الى حكومة الاكثرية قبل الانتخابات.

وداخل «حزب الله» حصَل نقاش واسع حول طريقة الرد على العقوبات الاميركية، وخصوصاً بين مؤيّد لرد على لسان امينِه العام السيّد حسن نصرالله ومعارض له، لتستقر الامور على التروّي قليلاً لاستكشاف الصورة.

والواضح انّ واشنطن تعارض بنحوٍ حاسم اقترابَ «حزب الله» من أيٍّ من الحقائب السيادية الاربع: الخارجية والداخلية، الدفاع والمال. وقد يكون «حزب الله» على اقتناع بأنّ الوقت لم يحِن بعد لاقتحام «المُربّع السيادي».

لكن هنالك ما بات يُعرف بالحقائب الاربع المرادفة للسيادية وهي: الطاقة، الاتصالات، التربية والاشغال. ويبدو أنّ «حزب الله» يطمح للحصول على واحدة منها. ولا شكّ في انّ كباشاً كبيراً سيحصل، وهو ليس الكباش الوحيد بطبيعة الحال.

فعدا تمسُّك الرئيس نبيه بري النهائي بحقيبة وزارة المال ووقوف «حزب الله» خلفه، هنالك عدد من النقاط الخلافية الاخرى، والتي يؤمل ان تتمّ تسويتها على الشكل الآتي:

ـ أن يدخل فيصل كرامي الى الحكومة ممثلاً عن النواب السنّة من خارج تيار «المستقبل».
ـ أن يكون هنالك مقعد وزاري لتكتّل «المردة» مع حقيبة وازنة.
ـ ويطالب الرئيس نجيب ميقاتي أن تتمثل كتلته بمقعد ارثوذكسي أو ماروني.

وبالتأكيد فإنّ المطالب لا تقتصر على هذه النقاط دون سواها. ذلك انّ هنالك خلفيات عدة تؤثّر في حسابات الحكومة المقبلة. فكما حضَرت حسابات انتخابات رئاسة الجمهورية مع تشكيل كلّ لائحة وصوغ تحالف خلال معارك الاستحقاقات النيابية، فإنّ حسابات الرئاسة نفسها تدخل في خلفية الاطراف والقوى السياسية. فالترجيحات السائدة اليوم تؤشّر الى انّ هذه الحكومة من المفترض ان تستمرّ طوال ولاية المجلس النيابي إذا لم يحصل طارئ ليس في الحسبان. ما يعني انّ القوى السياسية ستكون متشدّدة جداً في تعاطيها مع تشكيل الحكومة.

وإلى جانب هذه الحسابات هنالك المهمات السياسية المطلوبة من الحكومة المقبلة وبرنامج العمل لجهة الخطوط العريضة. فعدا ما بات مطلوباً لجهة الاقتصاد ومحاربة الفساد، هنالك مهمة أولى فرَضت نفسَها حتى قبل الدخول بالنقاش في الاسماء والتوازنات الداخلية، وتتعلق بمعالجة ملف النازحين السوريين، وبالتالي وجوب حصول تواصُل مباشر بين الحكومتين اللبنانية والسورية من خلال وزراء معيّنين. وقيل إنّ ثمّة تواصُل أوّلي حصل بين الحريري و«حزب الله» وتمّ التطرّق الى هذه النقطة.

أمّا المهمة الحكومية الثانية الثانية فتتعلق بانعقاد طاولة البحث في الاستراتيجية الدفاعية والتي من المفترض ان تشمل تسليح الجيش اللبناني بأسلحة متطوّرة لكي يستطيع مواجهة اسرائيل، حيث إنّ ايران كانت قد عرَضت سابقاً وفي اكثر من مناسبة تسليح الجيش اللبناني بما يتلاءم مع تحديث قدرته القتالية.

في كلّ الحالات فإنّ خطابات تعبئة الشارع واللعب على الغرائز الذي ساد بقوّة طوال مرحلة الحملات الانتخابية تلاشى، لتحلّ مكانه مفردات السياسة الواقعية والعودة الى الاصطفاف الكلاسيكي. على الأقلّ هذا ما ظهر مع الدعوة الى الإفطار الذي اقامه القائم بالاعمال السعودي في لبنان.

وفي المقابل اختلف خطاب رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، حيث دعا الدول العربية في مؤتمر اسطنبول الى ان تحتذيَ بتجربة مقاومة لبنان في مواجهة اسرائيل.

وهو خطاب لم يفاجئ «حزب الله»، بعدما كان لقاء السِتّ ساعات الذي عقِد بين الأمين العام لـ«حزب الله» وباسيل في عزّ الحملات الانتخابية قد شهد شرحَ الأخير لظروف الانتخابات الدقيقة وللشروط الصعبة للقانون ما يلزمه باعتماد خطاب معيّن، ومؤكّداً أنه بعد الانتخابات سيعود الى خطابه السياسي المعروف، لا بل سيذهب أبعد من السابق.

لكنّ حسابات بري قد تختلف عن حسابات «حزب الله» في هذا المضمار، حيث يدرس فكرة حصول اتّحاد أو صيغةِ تعاوُنٍ ما تضمّ عدداً من الكتل النيابية الحليفة لتصلَ الى نحو 50 نائباً. وهذا الاتحاد النيابي أو التعاون قد لا يضمّ بالضرورة كتلة «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، بل سيفتح ذراعيه لكتلة النائب وليد جنبلاط إضافةً الى عدد من الكتل والنواب المسيحيين بمن فيهم تكتُلا «القوات اللبنانية» و«المردة».

هذه الفكرة التي ما تزال مدار بحثٍ متأنٍ لدى بري تؤشّر الى أنّ حسابات كثيرة تقف خلف الحركة السياسية المقبلة، أبرزُها بلا شك ترتيب توازنات جديدة للتأثير في أيّ استحقاقات متوقّعة أو غير متوقّعة.