الحسد، ولا شعور سوى الحسد يليق بالزفاف الملكي البريطاني الذي غزا وسائل الاعلام الكبرى، وما زال يحتل مساحات واسعة من صوره وعناوينه. ولا بأس من بعض الحقد إزاء هذا الحدث البسيط، العابر، الذي فرض نفسه كأسطورة في طور التكوين، وخرافة جديدة تضاف الى قصة ساندريلا التي تتناقلها الاجيال من مختلف الثقافات والحضارات.

كان من الصعب الهروب من العرس، والاعتذار عن عدم حضور جزء من وقائعه. فقد كان النقل المباشر  يكتسح أجهزة التلفزيون، ويتمدد  بقوة الى وسائل التواصل الاجتماعي، ويستدرج كل من كان أمام شاشة صغيرة، لكي يشاهد ، ويسأل، ويستمتع ، ويعلق ، وينضم الى كتلة بشرية فاقت المليار نسمة حسب تقديرات الاعلام الناطق بالانكليزية، غادرت إهتماماتها اليومية، وإلتحقت بفخر الصناعة البريطانية، صناعة الصورة الملكية الباهرة، المتصلة بالأمجاد التاريخية الغابرة، والجاذبة للسياحة الخاضعة لمنافسات ضارية.

لكن الصورة لم تكن على هذا المستوى من الإبهار . لعل الامر كان من ضرورات الاثارة والتشويق، أو أنها كانت خدعة تم اللجوء إليها لاستعادة ألق التاج البريطاني، وموقعه في وعي البريطانيين خاصة ومعهم جميع الشعوب الغربية التي تعيش في ظل أنظمة ملكية:لا ضرر من وجود حكاية تُروى للاطفال قبل النوم، وتُنسى مع طلوع الشمس. العرس كان رائعاً ، لكن العريس ليس ملكاً ولن يكون إلا بعد أربع وفيات أو إعتذارات. هو أمير  لا يتمتع بميزة خاصة ولا تحوي سيرته أي علامة فريدة. والعروس لا تشبه ساندريلا ، ولا تمت إليها بصلة، وعدا لون بشرتها الجذاب فعلاً، لا يمكن لجمالها المتواضع ، وسيرتها العائلية والدراسية والمهنية والاجتماعية العادية أن تكفي لتتويجها أميرة.

التاريخ يزخر بالزيجات المثيرة بين أمير  وبين فتاة من عامة الشعب. ما عاد مثل هذا الارتباط الاستثنائي يسهم في تهدئة مراهقات  اليوم، ولا في إحتواء مشاعرهن الجياشة. ثم أن الزفاف الملكي البريطاني المدبر  تدبيراً خاصاً ، يبدو في زاوية منه، وكأنه عملية ثأر  متأخرة يقوم بها الامير هاري، من والده ومن جدته ومن أسرته التي نبذت والدته وألقت بها خارج القصر وخارج الدنيا، في واحدة من اقوى القصص التراجيدية في تاريخ العرش وفي تاريخ المملكة المتحدة.. والغريب أن مراسلة تلفزيون "بي بي سي" كانت تسأل بعض المدعوين والمدعوات الجالسين في حديقة القصر عن رأيهم في ما إذا كان هذا الزواج سيدوم طويلاً!

ميغان مركل التي تنتمي الى عامة الشعب الاميركي أصبحت أميرة بريطانية. هي حققت أقصى ما تحلم به كل فتاة. لكنها بدت في الكنيسة وفي الحديقة وفي العربة الملكية، دخيلة على عائلة محافظة  ربما وجدت نفسها أنها مطالبة بتجديد صورتها  الرتيبة، وفتح بوابات قصورها لتغيير جذري، لوافدة لا تتمتع بالصفات ولا بالجينات المرغوبة : هي سوداء ، (مع أنها  بالفعل سمراء) . هي مطلقة رجل يهودي ، وتكبر الامير هاري بسنوات. وهي من خارج العقيدة.. وكذا غيرها من التفاصيل المملة، التي تقصر عمر الزواج، وتبدد أصوات "الزلاغيط" الافريقية التي إنطلقت في العرس، وأكسبت موسيقى الحفل وأغانيه حيوية وحرارة لا تنسى.

..ما زالت مغادرة حفل الزفاف صعبة، فالصور والاخبار والتحليلات تضرب كل الشاشات. الحاجة الى بعض التسلية والترفيه إستُنفدت، بالامس، عندما خرج العروسان من المشهد، نحو مستقبل حافل بالرفاه والبنين.. يحفظ لبريطانيا سلالتها الملكية، ويغبط بقية الملكيات العالمية، ويغيظ بقية الامم التي ليس على جدول مواعيدها ، أي حفل فرح، وليس في ذاكرتها سوى الحسد، بل الحقد على ممالك وإمارات وجمهوريات غربية إستمرت وإستقرت وإزدهرت وتكاثرت وإطمأنت.. وباتت النميمة على أعراسها هي الإغواء الطبيعي الوحيد.