كل البلدان تتأثر بالخارج، محيطاً ودولاً نافذة على مستوى العالم وفي الاقليم. بالمجمل، البلدان الصغيرة تتأثر بخارجها أكثر مما يحصل مع البلدان الأكبر حجماً أو عدداً، وإن لم يكن هذا بمقياس مطلق. يصير المنظار أكثر منهجية إذا ما التفتنا لمستوى العقد والتماسك الاجتماعيين، ومقدار استقرار النظام السياسي وارتباطه بتحكيم سيادة القانون في البلد المعني. البلدان المنقسمة على نفسها هي أكثر استلاباً بالمتغيرات الخارجية، المحيطة بها كما الدولية. يُعاد إنتاج الانقسام السياسي والأهلي فيها، وتتبدل درجات السخونة والتبريد في هذا الانقسام بحسب الرياح العاصفة من شرق وغرب. وعندما تسمح التأثيرات الخارجية بتخفيف الوتر التصلبي الداخلي، يحتفي ساسة هذا البلد، بل مساحة لا يستهان بها من أهله، بكونهم نجحوا في إبعاد صراعات الآخرين عنهم، حتى اذا انقلبت الحال عادوا للتراشق، كل يستقوي او يتظلم، أو الامران معاً، لمصدر نفوذ أجنبي يعتقده كابحاً أو مندداً لنفوذ الآخر.

والحال هذه، هل محتّم على لبنان، أن تبقى مسارات التهدئة فيه، مجرد انعكاس لمناخات أو تقاطعات خارجية؟ وأن يبقى الاحتفاء بلبننة الملفات وقضايا الخلاف أو لبننة التفاهمات والتسويات، محكوماً بموجات المدّ والجزر بين المحاور؟ فإذا كانت الحال هذه فعلامَ التسابق في كل مرة للاحتفاء بلبننة الشيء ونقيضه، التبريد والتسخين؟

بعد انقضاء مرحلة الوصاية العسكرية والأمنية السورية، تأرجحت علاقة البلد مع أنماط النفوذ الأجنبي بين نموذجين. الأول هو نظام إشرافات إقليمية ودولية متعدّدة. يتكفّل كل مرجع إشراف فيها بفريق، ولأسباب تختلف من واحد لآخر. والثاني هو نظام وصاية جديد، والذي طرح نفسه في السنوات الاولى بعد الانسحاب السوري، كان محاولة إرجاع الوصاية السورية نفسها بشكل أو بآخر، ومهما كان الثمن. ولاحقاً طرح مشروع الوراثة الايرانية لهذه الوصاية، بالاستناد الى تحكمية وغلبة "حزب الله" وحجم ترسانته. واليوم، عناصر وجود هكذا وصاية عديدة، لكنها غير مكتملة. ونظام الإشرافات الإقليمية والدولية الأخرى، ليس لديه قدرة على تقليص النفوذ الايراني في لبنان، لكنها إشرافات متعدّدة ومتفاوتة، يُحسب لها حساب.

اللحظة الاقليمية الدولية الحالية تبدو شائكة في هذا الصدد. يعود معها الأخذ والردّ حول أثرها على عملية تأليف الحكومة وكم يستغرق هذا العمل من وقت. طبعاً، عوّدتنا السنوات الماضية أن لعبة الأمم تظهر بشكل مزاجي ومتقلّب للغاية حيال الوقائع اللبنانية، وأن المجموعة الغربية أمضت عقوداً تتعامل بتجريبية متقلّبة حيال موضوع "حزب الله"، تارة يُدرج على رأس المصنّفين وتارة يُميّز له جناح سياسي وآخر عسكري. حيناً يُطلب من اللبنانيين الآخرين أن يكونوا أكثر جذرية في أخذ موقف منه، وحيناً يُطلب منهم عدم الذهاب بعيداً في هذا المضمار. وهناك، تقليدياً، في دوائر صنع القرار بالعواصم الغربية الكبرى، من ينحو باتجاه سياسات المحاصرة والعزل تجاه الحزب، ومن يراهن، بصرف النظر عن اللغة المستخدمة والمسوّغات المعطاة، على دمجه في المؤسسات.

لم يُبرز "حزب الله" في السنوات الماضية اي استعداد جدّي للتداول مع القوى الأخرى الداخلية في عناوين الخلاف القائمة. لكنه حتى عندما يردّد ان سلاحه وما يسلكه من دروب ليس بحاجة إلى إجماعات وطنية، فهو يظل بحاجة، ولو مواربة، ولو على مضض، إلى أغطية محلية. والسؤال هنا اليوم. هل ثمة قدرة على المبادرة داخلياً، بحيث تكون هناك لبننة للملفات لا تكتفي بأن تكون مجرّد صدى لحسابات الخارج؟ لكن الأمور ليست بنسبية توزيع المسؤوليات على الجميع بالتساوي. عناصر الوصاية الايرانية ليست كباقي قنوات النفوذ. هنا بيت القصيد. هل يمكن تقليص هذا المعطى الوصائي للإقلاع؟