إسرائيل لا ترى في الاعتراف الأميركي بقدسها إلا حدثا توراتيا لا منة لواشنطن به، وأن الأضحيات المسفوك دمها في فلسطين تأتي لتبارك انتصارا أميركيا إسرائيليا مشتركا.
 

يكاد مشهد المواجهات بين الفلسطينيين العزّل وقوات الاحتلال الإسرائيلي أن يكون نافرا خارج الحسابات الدولية في أولوياتها المرتبطة بملفات ساخنة ليست فلسطين واحدة منها. ويكاد الأمر، رغم فلسطينيته، أن يكون طارئا على السياق الفلسطيني الداخلي المنزلق منذ سنوات من حال الانقسام إلى حال التفتت والتشظي.

ورغم أن الفصائل الفلسطينية التي يتقادم خطابها تتلطى خلف حمية الناس دفاعا عن قدسهم وفلسطينهم، إلا أن حراك الجموع يستبطن سقوطا للنظام السياسي الفلسطيني بكافة أطيافه، وفشلا جماعيا لكافة مكونات الطبقة السياسية الحاكمة في غزة كما في الضفة الغربية.

فأن تصر الجموع على التظاهر سلميا على الرغم من سقوط القتلى وعلى الرغم من إدراكها أن لا رادع يمنع إسرائيل من المضي في غيّها، فإن ذلك يلامس اليأس من سبل أخرى، بما فيها العسكرية، بما لا يوفّر خيارات غير تلك التي تخرج الناس عزّلا من أي سلاح لمواجهة من سبب نكبتهم منذ سبعين عاما.

وقد يحار المرء في تفسير الحدث بين ما هو سريالي إنساني في قصص صراع الأمم على مر التاريخ ضد الاحتلال، وبين ما هو سياسي له حوافز وأجندات ويُقرأ في تكتيكاته ومناوراته ومراميه. غير أن أي تحليل واقعي عملاني، أو يدعي ذلك، لا يمكن في زمن الصراعات النووية وشيوع الإرهاب العابر للقارات وتفجر براكين “الربيع” في منطقتنا، إلا أن يدهشه قدرة فلسطين على تخريب الحسابات رغم أنه يفترض أنها باتت خارج كل حساب.

على أن المذبحة، التي أربكت عواصم وزعامات في هذا العالم، ليس لها من مبرر إلا القتل المجاني الذي لا تفسير عقلاني له في علم السياسة.

تكاد إسرائيل، في ما ترتكب، تستنتج أن العالم متعايش مع حقيقتها، راعٍ لغيّها، يقترب من الإقرار لها بالقدس عاصمة. وفي ذلك ما يتيح لها إدراك غياب أي رادع يمنعها من المضي بعيدا في ممارسة أقصى صنوف القمع أمام الكاميرات دون خجل أو وجل.

وتكاد إسرائيل تستنتج من انقلاب المشهد الإقليمي المشوه بما فجّره “ربيع” العرب في بلدان المنطقة، أنها باتت بمأمن من أي أخطار حقيقية. تتصرف إسرائيل وفق حقيقة أن صراعها المزعوم ضد إيران وحزب الله وحماس لا يعدو كونه من عدّة الشغل التي تتيح لها الترويج لمظلومية وجود، وبما يبيح لها أن تفتح النار على عزل لا يشكلون أي خطر وفق ما تعلنه مؤسسات الأمم المتحدة نفسها.

وتكاد إسرائيل التي يهيمن عليها، نخبةً وناخبين، فكرٌ يميني متطرف، أن لا ترى إلا في القوة المفرطة سبيلا وحيدا لا بديل عنه في ورشة لا تكلّ لتغييب الشاهد المتبقي على كونها جسما محتلا عنصريا، لا يمكن أن تكتمل شرعيته إلا بالإخضاع الكامل لمن ما زال يجد أن لا شرعية لها على أرضه.

وتكاد إسرائيل المنتشية بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لها والمحتفلة بافتتاح واشنطن لسفارتها في المدينة، أن تعتبر أنها نهاية التاريخ الذي لا تاريخ بعده، بما يحوّل القتلى الفلسطينيين المتساقطين إلى تفصيل هامشي لما يدور في متنها. وفي ذلك أنها لا ترى في الاعتراف الأميركي “بقدسها” إلا حدثا توراتيا لا منّة لواشنطن به، وأن الأضحيات المسفوك دمها في فلسطين تأتي لتبارك انتصارا أميركيا إسرائيليا مشتركا.

على هذا لم تر واشنطن أي ضرورة للطلب من إسرائيل التروي وضبط النفس. لم يصدر عن منابر الإدارة الأميركية ما يعبر عن ضيق أو يظهر أي حرج. نيكي هايلي سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة تحدثت عن حدث نقل السفارة بصفته حقا سيادياً أميركيا، ولم تلتفت لحدث القتلى الفلسطينيين، ذلك أنه ليس حدثا. وحده جاريد كوشنر، مستشار ترامب وزوج ابنته، تنبه للأمر وراح يجتهد في فتواه “أثبتت (الأحداث) أن أولئك الذين يثيرون العنف هم جزء من المشكلة وليسوا جزءا من الحل”.

على الأقل هناك في الوفد الأميركي من اعترف بأن هناك مشكلة، وأقر بأنها لم تنته بتثبيت القدس عاصمة لإسرائيل في القانون الأميركي.

وبناء على تلك الاحتفالية المعمّدة بالدم بصفته من لوازم الاحتفال، تدير الولايات المتحدة وإسرائيل ظهرها للمنطقة والعالم أجمع تاركة الصراع العربي الإسرائيلي، ولأول مرة منذ عقود، دون ناظم أو عراب أو أفق أو خريطة طريق.

تعيش واشنطن وحليفتها إسرائيل اللحظة دون أي اكتراث بما بعدها. الأمر أغضب العالم أجمع الذي قال كلمته في مجلس الأمن، وبعد ذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ساعات من إعلان ترامب عن قراره بشأن القدس في ديسمبر الماضي.

أغضب الحدث المجموعتين العربية والإسلامية، فيما دول الاتحاد الأوروبي تكاد تكون مجمعة على رفض “القرار” و“السفارة” والاحتفال، وعلى استنكار وإدانة المذبحة التي تُقترف انتشاء بالحدث.

على أن ردود الفعل على حدث جلل ما زال محشورا داخل طقوس تقليدية وإن اتخذت في بعضها مظاهر متقدمة. يُستدعى سفراء إسرائيل هنا وهناك، ويبعدون مؤقتاً هنالك. وترتفع في أوروبا أصوات تلامس مطلب العودة إلى مسارات التسوية دون أن تخاطر في تقديم نفسها في ما تريده السلطة الفلسطينية أن يكون بديلا عن الرعاية الأميركية.

والخشية داخل زحمة الطقوس أن لا يعدو الأمر كونه ضجيجا عابرا يختفي داخل زحام الملفات الدولية الكبرى.

العالم يتحدث عن اللحظة الفلسطينية لكنه شديد الشغف بمستقبل الاتفاق النووي مع إيران، كما بما يمكن أن تحمله قمّة زعيمي الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. ثم أن العالم في معسكريه، الغربي وذلك الذي تقوده روسيا والصين ودول صاعدة أخرى، لا يمكن أن يعيد قضية فلسطين أولوية داخل أجنداته فيما هي ليست كذلك داخل أجندة العرب، وربما داخل أجندة الفلسطينيين أنفسهم.

قد تستفيد إيران من النفخ بالحدث لتثبيت شرعية ثورية تحكم فيها نظام طهران وتشرّع من خلاله تمددها داخل دول المنطقة. فالمرشد في طهران ونتنياهو في إسرائيل يتبادلان المنافع في تقاذف التهديدات التي تؤمّن شرعية وجود لهذا كما لذاك.

وقد يدرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأمر داخل حملته الانتخابية للحصد بشعبوية تامة مزيدا من الأصوات ترفعه رئيساً فوق العادة في بلاده الشهر المقبل.

فإذا ما أبعدت أنقرة سفير إسرائيل مؤقتا وتبارى أردوغان ونتنياهو في تبادل التصريحات والتغريدات، فإن إسرائيل دولة محتلة تمارس إجراما، وفق الأدبيات التي تستخدمها تركيا، بما يطرح أسئلة بناء على هذه الأدبيات، حول مبرر وجود سفير لها في أنقرة قبل المذبحة كما بعدها.

بيد أنه وبغض النظر عن مواقف داعمة وأخرى حائرة هنا وهناك في هذا الكوكب، ما الذي ينتظره الفلسطينيون لإنهاء انقسامهم.

الأمر لم يعد يقتصر على الأمر بين غزة والضفة، وبين فتح وحماس. كشف الجدل حول المؤتمر العام الأخير لحركة فتح، كما الاجتماع الأخير للمجلس الوطني الفلسطيني، أن الداخل الفلسطيني يتفتت وتنبت داخله الأورام على نحو نقيض لمشهد خروج الناس لمواجهة المحتل.

تحتفل إسرائيل والفلسطينيون يدفعون لوحدهم دما مسالا ثمن احتفالاتها. فإذا ما بقي حال الطبقة السياسية الفلسطينية على حاله في التخلف عن لغة العصر والتقادم عن راهنه، فإن تلك الاحتفالات باقية مهما قامت هذه العاصمة أو تلك باستدعاء سفير إسرائيلي، أو إصدار بيان إدانة أو رمي إسرائيل بعتب حنون.