سقوط مقولات الإقصاء المتبادل والأولوية تحصين موقع رئاسة الوزراء والتنمية
 
ألقت المعاركُ الإنتخابية أوزارها وإلتفتت القوى السياسية إلى جمع مغانمها أو إحصاء خسائرها، وتوزّعت النتائج بين رابحٍ وخاسر وبدأت حسابات إستحقاقات تكوين السلطة الجديدة في مجلس النواب والحكومة.
ومع عدم وجود منافسٍ للرئيس نبيه بري، يكون المجلس المنتخب متجهاً للتجديد لـ "الأستاذ" لولايةٍ إضافية، في حين تبدو المعركة على رئاسة الحكومة محفوفة بسلسلة شروط بدأت تظهر لتفرز تثبيت الزعامة السنية بعد مواجهةٍ أنتجت الكثير من الإلتباسات والتداعيات داخل الساحة السنيـّة.
 
ميزان الحضور والزعامة
 
أعطت حصيلةُ الإنتخابات النيابية مؤشراتٍ وخلاصات لا بدّ من الوقوف عندها، وأهمها:
 
ــ أن الرئيس سعد الحريري إستطاع الحفاظ على تفوقه سنياً، لكن ذلك مترافقٌ مع ثغراتٍ كثيرة وثقوبٍ أصابت تيار المستقبل في أدائه وتماسكه السياسي والتنظيمي، كان من أهم نتائجها إستقالة مدير مكتب الرئيس الحريري نادر الحريري.
وهذا ما أدى إلى قرارات الرئيس الحريري بإقالة مسؤولي الماكينة الإنتخابية ومنسقيات بيروت والبقاع والكورة وزغرتا ومن المتوقع أن تتوسع حركة المحاسبة لتشمل وجوهاً ومواقع إضافية ، يعزّزها ما تسرّب من تسجيلات مصورة عن تضييع حقوق العاملين في الماكينة الإنتخابية، وإتضح أنه لولا الجولة الواسعة التي قام بها الحريري وشملت أكثر من 100 مدينة وبلدة على إمتداد الأراضي اللبنانية، مخاطراً بأمنه الشخصي، لكانت النتائج أسوأ بكثير مما حصّله التيار، وأعطت الإنطباع أنه لا تزال لسعد الحريري مكانة مؤثرة لدى الجمهور السني لا يمكن تجاوزها، مقابل تراجع حادٍ في أداء تياره جعله بعيداً عن الناس وهمومهم وقضاياهم.
 
ميقاتي: تثبيت الإستقلالية وسياسة حُسن الخطاب
 
 وفي موازاة أزمة تيار المستقبل برزت قياداتٌ سنية ذاتُ حضورٍ موصوفٍ، أبرزها الرئيس نجيب ميقاتي، بعد معركةٍ حامية في طرابلس، أسفرت عن فوز النائبين سمير الجسر وديما جمالي وحليفهما الوزير محمد كبارة، بينما حصد ميقاتي أكثر من 22 ألف صوت مع نواب المقاعد الماروني والأرثوذكسي والعلوي، مشكّلاً كتلة وازنة تتمتع بالتنوع الوطني المتجسد في عاصمة الشمال.
وفي أدائه الإنتخابي، كان ميقاتي يتألق بالترفع عن منزلقات الخطاب الهجومي الصاخب الذي تعرّض له خلال الحملات من بعض مرشحي تيار المستقبل، بل إنه سجّل موقفاً إيجابياً لافتاً عندما أكد أمام جمهوره على إحترام رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، في دأبه الدائم للحفاظ على موقع الرئاسة الثالثة.
 
مخزومي: تنافس يستلزم التبصّر
 
كان لإختراق فؤاد المخزومي في بيروت لائحة المستقبل وقعٌ ثقيل على الرئيس الحريري، الذي تلقى ضربة معنوية عندما جاء نائبُ "حزب الله" أمين شري أولاً في ترتيب الأصوات التفضيلية بدائرة بيروت الثانية ليحلّ الرئيس الحريري في المرتبة الثانية.
لكن خطاب مخزومي متضاربٌ، فبعضُه يتسمُ بالهدوء والإنفتاح، والبعض الآخر مستفزٌ ويظهر تهوراً وتسرعاً في إطلاق المواقف والأحكام، وهذا يستدعي التبصّر والحذر من الوصول إلى وضعية التحوّل إلى حصان طروادة، بينما المنتظر أن يكون شريكاً مساعداً في البناء.
 
 
خطر الإختراق في الساحة السنية
 
وظهر أكثر من أيّ وقتٍ مضى خطر إختراق "حزب الله" للساحة السنية من خلال مرشحين يربطون قرارهم الإستراتيجي بقراره، مهما بدا أنهم يتمتعون بهامش مناورةٍ شكليّ، يتيحُ لهم توسيع دائرة حضورهم الشعبي والسياسي.
وقد شكل هؤلاء كتلةً وازنة في المجلس الجديد وإمتدّ حضورهم من بيروت حيث الأحباش ونائبهم عدنان طرابلسي، إلى البقاع وعبد الرحيم مراد وصولاً إلى دائرة طرابلس الثانية والتي فاز فيها فيصل كرامي وجهاد الصمد مضافاً إليهم حلفاؤهم عن مقاعد أخرى..
 
تحدي تشكيل الحكومة
 
لا شك أن إختيار شخص رئيس الحكومة المقبل محكوم بالظروف المحلية والخارجية وبطبيعة المرحلة ومدى تلاقي المصالح والتوجهات الدولية والإقليمية، ومن الواضح أننا مقبلون على مرحلة صراعٍ محتدم في الإقليم وسط إحتشاد القوى الدولية في سوريا، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على الداخل اللبناني.
إن هذا الواقع يعني أن القوى اللبنانية سوف تستشرس في سبيل الحصول على أكبر حصةٍ ممكنة من المواقع الوزارية ، فضلاً عن محاولة فرض توجهاتها على الأطراف الأخرى، وهو أمرٌ بات معلوماً لدى الجميع.
هذا الواقع يعني أيضاً وجوب دعم الرئيس الحريري أولاً في تشكيل الحكومة، بإعتباره صاحب الكتلة السنية الأكبر والأحق بهذا الموقع، وهذا يوجب أيضاً حركة إستيعابٍ حريرية للقيادات السنية ، وتحديداً الرئيس ميقاتي وتجاوز مرحلة الإنتخابات، خاصة أنه سبق أن تصالحا وخاضا الإنتخابات البلدية معاً.
لكن يجب الحذر من الكمائن المتوقعة في ضوء ترويج نظرية الإستضعاف للرئيس الحريري من قبل "حزب الله" وحلفائه، ومع عودة الزخم السعودي إلى لبنان، وما يتوقع أن ينتج عن هذا الإصطفاف مع إنسحاب أميركا من الإتفاق النووي مع إيران، ويجب وضع الخطط البديلة لحرمان الحزب ومرجعيته من شقّ الصف السني وتكرار أزمة العام 2011، لذلك يبدو ضرورياً وضع كل الإحتمالات على الطاولة لحفظ حق الحريري في الوصول لرئاسة الحكومة ، ومنع إدخال هذا الموقع في أي شكلٍ من أشكال الفراغ.
والمصالحة يجب أن تشمل أيضاً الوزير أشرف ريفي الذي لا يمكن شطبه من الحياة السياسية بسبب عدم نجاحه في الوصول للبرلمان، حيث لا يمكن تجاهل الشوائب والتساؤلات الجدية المطروحة حول إدارة العملية الإنتخابية في بعض المناطق، ومنها طرابلس.
 
الجوامع المشتركة
 
يلتقي الرئيسان الحريري وميقاتي والوزير ريفي على نقاطٍ جامعة ، أهمها:
ــ التمسّك بإتفاق الطائف ورفض أي محاولةٍ لنسفه أو تعديله، لأن ذلك يعني ضرب التوازن الوطني.
ــ الحفاظ على مكانة وموقع رئيس الوزراء ورفض المسّ به، ورفض محاولات فرض أي أعراف تمسّ بصلاحيات الرئاسة الثالثة.
ــ أن الرئيسين الحريري وميقاتي محكومان بالتعاون لإيجاد حلول سريعة وناجعة لمشاكل طرابلس، التي تحتاج تضافر الجهود وتكثيف المساعي لوضع حدٍ لكارثة مكب النفايات وتفعيل المرافق العامة، وبدء خطوات عملية للحدّ من مشكلة البطالة وإستنقاذ قطاع التعليم الرسمي في المدينة وتكثيف العمل لتحسين حياة المواطنين في أحزمة البؤس التي تحاصر طرابلس، والتي خرجت مئاتٍ من الشباب المستدرَجين إلى العنف أو للغرق في مستنقع المخدرات والجريمة.
 
خلاصات الموقف 
 
ــ الخلاصة الأولى التي يمكن تقديمها هي تثبيت الديمقراطية والتعددية داخل الوسط السنـّي، مع الإقتناع لدى الجميع، بمن فيهم الرئيس الحريري أن هذه التعددية ليست خطراً عليه، وتعزيزها ناجم عن قانون إنتخابٍ كان الحريري من الموقعين عليه والمسؤولين عن نتائجه وتداعياته.
 ــ الخلاصة الثانية هي أنه بوجود رؤيةٍ سياسية وتنموية وإجتماعيةٍ واضحة، وبإعتماد توجهات الشورى والتعاون، يمكن توفير الإجتماع السني حول الرئيس الحريري ودعم مشروعه للحكم، خاصة إذا توافرت عناصر الدعم الدولية والإقليمية، وهنا سيكون الرئيس ميقاتي في وضعية الدعم لأنه ربط تقدمه نحو الرئاسة الثالثة بتوفر ظروف النجاح، وليس فقط بإمكانية المنافسة النظرية.
 
سقوط مقولات الإقصاء المتبادل
 
أسقطت نتائج الإستحقاق النيابي مقولة أن سعد الحريري قد إنتهى وها هو قد عاد وإن بحجمٍ أقلّ من السابق إلا أنه يقف على رأس الكتلة السنية الأكبر، كما أسقط الناخبون مقولة أن نجيب ميقاتي هو "صنيعة المستقبل" أو أنه تابع لمحور إيران – الأسد ، في حين أنه صاحب المعادلة الذهبية (النأي بالنفس) ، وصاحب الرقم التفضيلي المتقدم بين القيادات السنية. 
وأثبتت نتائج الإنتخابات أن أشرف ريفي سيبقى فاعلاً حتى من خارج البرلمان وستيبقى شريحة هامة من المجتمع الطرابلسي واللبناني متأثرة بخطابه وتوجهاته.
 كما أكدت النتائج أنه لا يمكن تجاهل مزاج الرأي العام السني الذي أبدى مؤشرات رفض متتابعة لسياسات الرئيس الحريري ، وقبلها الرئيس ميقاتي في الإنتخابات البلدية الفائتة، وما إطلاق الحريري حملة محاسبة واسعة في صفوف تيار المستقبل إلا إستجابة لنبض الرأي العام الذي عبر عن إعتراضه بوسائل مختلفة منها المقاطعة، ومنها التسرب نحو الإعتراض الإنتخابي والسياسي.
 
ليس بين القيادات السنية دماء.. فالتفاهم أولوية
 
في ضوء ما تقدم تبرز ضرورة حصول تفاهم بين القادة السنة، وتحديداً بين الرئيسين الحريري وميقاتي حول تأمين المصالح السنية العليا، المنسجمة مع المصلحة الوطنية.
هذا الأمر بات أكثر من ضرورة ، خاصة أن قياداتٍ لبنانية أخرى، وتحديداً المسيحية منها، تمكنت من تجاوز الصراعات الدموية التي سادت بينها ودخلت مرحلة تفاهم وتنظيم الخلاف حفاظاً على مصالح طوائفها.
والنماذج قائمة، وأهمها: المصالحة بين القوات اللبنانية وتيار المردة ، وإن لم يحصل بعد اللقاء الثنائي بن الدكتور سمير جعجع والنائب سليمان فرنجية.. وتفاهم معراب بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر الذي أنهاى آخر صفحات الحروب الداخلية، بعد أن كانت ميدانية وإنتقلت لتتحول سياسية على مدى عقود.
في المقابل، ليس بين القيادات السنية دماء أو صراعٌ يحمل أوزار حروب، مما يحفـّز على التعاون مع حفظ الحق في التنافس الديمقراطي، وهذا يوجب إعادة صياغة الثوابت الإسلامية والوطنية الصادرة عن دار الفتوى في العام 2011 لتشكّل سقف المصلحة الإسلامية العليا الملزم لجميع القيادات السنية.
تحتاج القيادات السنية اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى إلى إستجماع كل عناصر القوة والحصانة، وهذا يوجب إنهاء تداعيات مرحلة الإنتخابات ووقف خطابات التحريض والكراهية والإقرار بأهمية التكامل والإعتراف المتبادل بالحضور السياسي كمدخلٍ للتعاون وللحفاظ على الوجود في مرحلةٍ تشهد تحوّلاتٍ وجودية في المحيط والعالم.