في لحظة التخلّي العربي، أصبح ممكناً أن تنفّذ إسرائيل خطواتٍ متقدّمة في الطريق إلى المشروع الكبير. فأيُّ عربٍ سيواجهونها، وهم جميعاً في أسوأ الأحوال من التشرذم والتقاتل والضياع؟
 

هناك اقتناعٌ لدى العديد من المتابعين بأنّ إسرائيل ستضغط لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، بناءً على المعطيات الشرق أوسطية الطارئة، بهدف فرض وقائع جديدة.

ونقلُ السفارة الأميركية إلى القدس هو البداية. والخطواتُ الإسرائيلية المنتظرة هي الآتية:


1 - العمل على تكريس القدس عاصمة لإسرائيل في شكل نهائي ودائم. وعلى الأرجح، لم يعد الإسرائيليون مضطرّين إلى المناورة بطرح توسيع نطاق المدينة إدارياً نحو أريحا في الضفة الغربية، ليكون هذا الجزءُ ضمن سلطة الحكم الذاتي وإيهام الرأي العام بأنّ القدس هي عاصمةُ الفلسطينيين أيضاً. فإسرائيل تشعر اليوم بالقوة والدعم الأميركي، ولن تجد نفسَها مجبَرةً على ممارسة المزيد من المناورات.


2 - تقوم الدولة الفلسطينية الموعودة في غزة لا في الضفة. ويجري تداولُ مشروع لاستئجار بقعة من أرض سيناء المصرية لتكون أيضاً مكاناً لإقامة الفلسطينيين الوافدين من مناطق داخلية وبعض دول الشتات. ويكون لهذه البقعة منفذٌ بحري مفتوح على غزة وعلى الجزء الفلسطيني من النقب. وترتبط هذه المنطقة بمناطق الحكم الذاتي عبر ممرّ آمن.


وفي صيف العام الفائت، أطلقت وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية جيلا جملئيل دعوة واضحة إلى اعتماد هذا الخيار، وقالت إنّ سيناء هي أفضل مكان يقيم فيه الفلسطينيون دولتهم.


ويتم تمويلُ بناء هذه المنطقة من خلال صندوق دوليّ قوامه عشرات المليارات من الدولارات، تتولّاه الدول المانحة، ولاسيما الدول العربية الغنية. وتكون هذه المنطقة شديدة الازدهار، وجذّابة إقتصادياً لاستقطاب الفلسطينيين الفقراء من المناطق الداخلية.


3 - ستطلق يد إسرائيل في تثبيت المستوطنات وتوسيعها وبناء المزيد منها بعد إضفاء الشرعية عليها، في مقابل منح الحقّ في العودة إلى أعداد محدّدة من فلسطينيّي الشتات. ولكنّ عودة هؤلاء ستكون محصورة بالمنطقة المرسومة لهم في غزة وسيناء، ولن تشمل الضفة.


4 - تعلن إسرائيل موافقتَها على مبدأ المبادرة العربية للسلام التي أطلقها الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز خلال القمة العربية في بيروت، العام 2002. وتأمل في أن تأخذ الرياض والقاهرة على عاتقهما إقناع السلطة الفلسطينية بالتزام التنفيذ.


وتقوم المبادرة على مبدأ المقايضة، بحيث يوافق العرب على إقامة سلام مع إسرائيل، في مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة واعترافها بدولة فلسطينية، ويتم اعتبار الصراع العربي- الإسرائيلي منتهياً. وأما ملف اللاجئين الفلسطينيين فتجري معالجته بناءً على نصّ قرار الأمم المتحدة الرقم 194. وتريد إسرائيل إدخال تعديلات عميقة على المبادرة، وإعطائها تفسيرات محددة تناسبها، قبل إعلان الموافقة عليها.


5 - بناء على اعتراف إسرائيل المبدئي بالمبادرة العربية للسلام، تعلن الجامعة العربية اعترافها بإسرائيل.


6 - تجري عملية تبادل للأراضي والسكان وفق المشروع الذي طرحه وزير الدفاع الحالي أفيغدور ليبرمان في العام 2010، عندما كان وزيراً للخارجية، وأعاد التأكيد عليه مراراً. وهو يقوم على مقايضة بين اليهود والعرب تشمل العقارات والسكان، بين مناطق 1948 والمناطق الأخرى. ويرمي المشروع إلى تكريس إسرائيل دولة يهودية.

ومعلومٌ أنّ مخطط الوصول إلى «يهودية الدولة» بدأ يخرج إلى العلن بوضوح في أواخر 2010، أي بالتزامن مع انطلاق «الربيع العربي». وفي 2011، أقرّ الكنيست الإسرائيلي مشروعَ قانون يعلن أنّ «دولة إسرائيل هي الوطن القومي لليهود».

وفي أيار 2017، وفيما البلدان العربية غارقة في حال الاهتراء والعجز نتيجة صراعاتها الداخلية، أقرّ الكنيست مشروع القانون، وهو ينصّ على ما يأتي: «إنّ حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على الشعب اليهودي». واعترف المشروع بالعبرية وحدها لغة رسمية، وألغى مكانة العربية كلغةٍ ثانية رسمية.

وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإسرائيل، يومذاك، حيث أطلق وعده بالوفاء بالوعد الذي قطعه في حملته الانتخابية: العمل لاستئناف المفاوضات في الملف الفلسطيني، وضمان أمن إسرائيل، والاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة إليها، من تل أبيب.

واليوم، كل البلدان العربية المحاذية لإسرائيل غارقة في أزماتها: سوريا والعراق يعانيان الحرب الأهلية، الأردن ولبنان واقعان تحت أثقال النازحين، مصر مربكة سياسياً واقتصادياً، والسلطة الفلسطينية مشرذمة وضعيفة.

وأما دول الخليج العربي فهاجسها النفوذ الإيراني في المنطقة والمخاطر المتأتية من الخاصرة المفتوحة، أي اليمن. والطاقات التي تملكها تتيح لها إبرام الصفقات مع الولايات المتحدة حول مستقبل الشرق الأوسط. ولذلك، جاء نقل السفارة الأميركية إلى القدس في ذروة التصعيد الأميركي ضد إيران. وأما تركيا فتلتزم الصمت بعد الرشوة التي قدّمها إليها الأميركيون بإحباط قيام كيان كردي على حدودها.

ولكن، الأرجح أن خطة إسرائيل لن تكون مجرد نزهة. فالقوى الدولية والإقليمية كلها ستدخل على الخط من خلال المفاوضات المنوي إطلاقها، وستعمل لحجز أماكنها. ولن يكون سهلاً أن يقبل العرب جميعاً التفسير الإسرائيلي لمبادرة بيروت العربية للسلام، علماً أن السعوديين، أصحاب المبادرة، قاموا مع المصريين خلال العام الجاري بجهود حثيثة لتحقيق تقارب بين «فتح» و»حماس»، وهذه الخطوة حتمية للتأسيس لأي حوار مع إسرائيل.

ولكن، يبقى اللغز في مدى قدرة واشنطن على تحقيق التقارب بين حلفائها الشرق أوسطيين، الإسرائيليين والعرب. فهذا التقارب من شأنه إحداث زلزال استراتيجي يغيّر الشرق الأوسط بكامله. ويبدو ترامب حريصاً على تحقيق إنجاز شخصي في هذا الملف. والدليل هو الحضور والرعاية المباشرين، من أقرب الأقربين شخصياً إليه: إبنته وصهره اللذين أعطيا امتياز أن يشهدا على الحدث التاريخي.

قد يكون حدث السفارة شرارة المفاوضات، إذا ظهرت ردود عربية هادئة. وقد يكون شرارة بركان سياسي أو عسكري إذا ظهرت ملامح تصعيد. ولكن، في أي حال، سيكون الفلسطينيون في مأزق، لأنهم وحدهم اليوم، في ساعة التخلّي العربي... كما كانوا قبلها!