طريف مشهد ما بعد الانتخابات التشريعية في لبنان. احتفالات النصر شملت، تقريبا، جميع الأطراف التي خاضت، بين بعضها البعض ـ يفترض ـ النزال. الطريف أكثر ان الديمقراطية البرلمانية، المعتمدة دستوريا في لبنان، لا تشبه معهود الديمقراطية البرلمانية حيث هناك اكثرية فائزة بالانتخابات تنبثق عنها حكومة، واقلية خاسرة تتحول إلى حكومة ظل من ضمن موقعها المعارض من تحت قبة البرلمان. الديمقراطية البرلمانية اللبنانية لا مكان فيها للفصل بين السلطات، ولا للتداول المؤسساتي على السلطة على قاعدة اكثرية واقلية برلمانيتين، بل لتداول عشوائي. هي اولا، لا تعتمد معيارا ثابتا، بل يعتمد في كل فترة «تراند» يكرّس «ميثاقاً».
التراند الذي راج في السنوات الاخيرة ان قاعدة اكثرية واقلية السارية المفعول في الديمقراطية البرلمانية، تسري لبنانيا ايضا، لكن على مستوى كل طائفة. القوى التي لها تمثيل اكثري في طوائفها تتآلف حكومياً. لكن حتى هذا «التراند» لم يكن بامكانه ان يطبّق بالكامل: يمكن لقوة صاحبة اكثرية في طائفة «الف» ان يأخذ على خاطرها عدم تمثيل قوة اقلوية في طائفة «باء»، وتعرقل التشكيل الحكومي ما لم تمثل صديقتها. ليس هناك «تراند» شامل في الديمقراطية البرلمانية على الطريقة اللبنانية. لنقل انها قائمة على تمثل الكتل الكبرى ضمن طوائفها بالنسب المخصصة لهذه الطوائف، واحيانا بنسب من طوائف اخرى، في الحكومة. لا يمنع هذا ان تكون حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قد تشكلت عام 2011، من دون تمثل الكتلة الاكبر ضمن طائفة رئيسها، وانه حدث شقاق اهلي قبل ذلك حين استقال، في خريف 2006، وزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ولم تعتبر الحكومة نفسها مقالة بنتيجة ذلك، في حين رفض «حزب الله» وحلفاؤه آنذاك القول بشرعيتها وحاصروا مقرها لعام ونصف العام، وصولا إلى عملية 7 ايار 2008 للسيطرة العنفية على بيروت الغربية واقتحام بعض الجبل، اعتراضا على قرارات الحكومة، بخصوص شبكة اتصالات خاصة بحزب الله.
أحيانا يخطر لفريق في لبنان، بحكم ظرف بعينه، ان يتشبه بالديمقراطية البرلمانية على الطريقة «غير اللبنانية»، ثم يعود الفريق نفسه إلى ريتوريك «الميثاقية» و«الحصة الوزارية» المتناسبة، مع حجمه، ان لم يكن النيابي فالشعبي المتخيل، وان لم يكن الشعبي المتخيل فالنفسي الوجداني، وهكذا.
واليوم، بما ان الجميع يهنىء نفسه بالفوز، ويعتبر نفسه «منتصرا»، اصبحت هذه الديمقراطية البرلمانية على الطريقة اللبنانية في وضع لا تحسد عليه، وضع تتمرد فيه «الرياضيات على الطريقة اللبنانية» على علم الحساب. فالانتصار هنا المقصود منه، ابتداء، حصة وزارية اكبر، على اساسها يكرس الفريق ما انجزه وكسبه في الاستحقاق النيابي. والا، ما معنى ان تقول لنفسك انك منتصر بالانتخابات اليوم، وتضطر غدا لتقليص عدد وزرائك في الحكومة، ومستوى حقائبهم فيها؟ بالتوازي، كيف يمكن تشكيل حكومة على قاعدة استقراء كل فريق لنتيجة ما حققه في الانتخابات، واعتبار حجمه البرلماني يساوي الحجم الوزاري الفلاني، واي انتقاص منه الغاء وظلم. كل هذا طبعا على هامش موضوع التجانس الوزاري، الذي ثمة اجماع ضمني مزمن على اعتباره «غير مهم» للعمل الحكومي.
هناك شيء «طريف جوهريا» في السستام اللبناني. مثلا، ليس هناك انتخابات بالاقتراع العام لانتخاب برلمان مصغر لكل طائفة، ولو طرح مثل هذا لاحتج الخلق بأنه طرح «طائفي»، بمعنى ان فيه «تكريس» للطائفية، اذ من شروط الطائفية المقبولة لبنانيا ان تظل سيالة، وجوالة، ولا تثبت في ركن، في مجلس منتخب للطائف بالاقتراع العام، مثلا. لكن، في مقابل هذا، يصير الاقتراع العام في الانتخابات النيابية «اقتراعا خاصا». فليس هناك مساواة بين صوت مواطن وصوت آخر، حسب الطائفة، وحسب المنطقة، وحسب التقسيم الانتخابي. والتسابق لاعلان «الانتصارات» من لدن الجميع بعد الانتخابات، راجع اساسا لتعميق هذا الامر، تغييب مفهوم «الاقتراع العام» لحساب «الاقتراع الخاص» والتراتبي. وهكذا، بدلا من النظر إلى انتصارك او عدمه، من ضمن معادلة فرز من له اكثرية لائتلاف موجود او تصوري، في البرلمان، ومن هو في القسم الاقلوي من العدد البرلماني، انتشرت عادة استقراء النتائج، حسب المنتصرين في كل طائفة. وهذا بدوره لم يوحد المعيار. بالعكس. من حافظ على اكثريته ضمن طائفته اعتبر انه بهذا منتصر. ومن حقق تقدما عن حجمه الماضي اعتبر انه بحيويته الناجحة هذه منتصر. ومن الغى تماما اي تمثيل مخاصم له ضمن طائفته اعتبر انه بالاجماع هذا منتصر.
في الواقع، الحزب الوحيد الذي ضاعف كتلته البرلمانية هو حزب القوات. مضاعفة حرفية. بنواب حزبيين بمعظمهم، ويقبلون جميعا مبدأ الفصل بين النيابة والوزارة المعتمد من قبل قيادة هذا الحزب.
بقية الاحزاب، او بالاحرى الحزبيات، الاوليغارشية من فوق والشعبية من تحت، اما حافظت على عددها البرلماني، او تراجعت بنسب متفاوتة، ولو انه لم يسجل اي انقلاب بين اكثرية واقلية ضمن اي من الطوائف، من الانتخابات السابقة، قبل تسع سنوات، إلى اليوم.
لكن المشهد لا يقرأ بـ«الاقتراع الخاص» وحده. حتى البرلمان المطيف، والمتفاوتة الصفات التمثيلية لاعضائه كما الصفات التنافسية الحرة لانتخاباته حسب الدوائر، يقرأ بعدده الاجمالي وتوزيعه.
والمجلس الحالي، هو، بخلاف المجلس المنتخب في حزيران 2009، مجلس ليس عنده، بأكثريته المطلقة، مشكلة مع سلاح «حزب الله»، ولم يعد فيه اي نائب شيعي عنده مشكلة مع هذا السلاح، وثلثا النواب المسيحيين ليس عندهم مشكلة مع هذا السلاح، وثلث النواب السنة. في اللوحة ايضا، ان حضور نواب مسيحيين في كتل بأكثرية اسلامية تراجع كثيرا، مثلما اندثرت الكتل البرلمانية المختلطة طائفيا.
لا يمكن اختزال النتائج في منظر من دون عموم المشهد، ولا توليد صورة للمشهد الاجمالي بدمج مناظره في العين المبصرة فوق اللزوم. ثمة محددات اساسية: المجلس، بأكثريته، متطبع اكثر مع سلاح «حزب الله» ومرجعيته التحكمية، لكن الكتلة العونية، الاولى مسيحيا فيه، والمتفاهمة مع الحزب حول سلاحه، ماضية في اشتباك مع شريك الحزب في الثنائي الشيعي، الرئيس نبيه بري، ولهذا تأثيره. الكتلة القواتية تضاعفت، لكن ايضا، احتمال تقاطع «عازل» للقوات تضاعف، وقلة صبر القوات على العمل الجبهوي مع الآخرين تسهّل الامور لهكذا تقاطع. الورشة البادئة ضمن «تيار المستقبل» على خلفية دراسة اسباب التفاوت بين انتظاراته الانتخابية ونتائجه، هي ايضا ورشة لا يمكن ان تختزل في الجانب الاداري التقني فقط، طالما انها تستدعي ورشة تحديد من هو الاقرب ومن هو الابعد سياسيا، بين الفرقاء السياسيين الآخرين، في الفترة المقبلة. التوصل إلى «بلاتفورم» مشترك بين «القوات» و«المستقبل» يبقى التصور الفطري الأجدى، اذا كان المناط تقليل حدة انعدام التوازن لصالح «التطبع» مع طليعية سلاح «حزب الله» المغطاة برلمانيا الآن. في نفس الوقت، «احياء» 14 اذار، كما «احياء تفاهم معراب» كما «احياء تفاهم مار مخايل» هي شعارات للدراما. ادوات المقاربة والمراقبة للوضع تستدعي نزعا لهذه الطفرة الدرامية قبل اي شيء آخر.