رغم التصعيد العسكري الكبير والخطير الذي حصل في سوريا بين الإسرائيليين والإيرانيين والذي تزامنَ مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالخروج من الاتفاق النووي، إلّا أنّ الحرب لم تكن وشيكة أو حتى قريبة، بخلاف الصورة التي ظهرت
 

للحرب حسابات أخرى مختلفة لم يقترب منها أيّ من الفرَقاء، وربّما الأصحّ أنّ الجميع لعب وما يزال على حافة الهاوية لكن كلّ فريق كان يرسم حاجزاً امام احتمالات الانزلاق نحو الحرب.

فالهجوم الايراني، الذي كان يهدف إلى توجيه رسالة جوابية إلى إسرائيل بأنّ طهران لن تقبل بقواعد جديدة للّعبة في سوريا تُهمّش التأثير الايراني، هذا الهجوم جرى اختيار مضامينه بدقّة، بحيث إنّ الصواريخ التي استُخدمت كانت من الطراز القديم والتي تُحدِث ضجيجاً اكثر منه دقّةً في الاصابة، والتي يمكن اعتراضها بسهولة.

ولا شكّ في أنّ إسرائيل وكما الولايات المتحدة الاميركية قرأت ذلك بكلّ تمعّن. لكنّ المشكلة كانت انّ ايران اختارت توقيتاً غير ملائم لتقعَ في ما يشبه الاستدراج، ليأتي الرد الاسرائيلي والذي كان محضّراً قبل فترة، بشكل عنيف من خلال ستّين صاروخاً جو– ارض وعشرة صواريخ ارض– ارض والتي استَهدفت المراكز الايرانية.

إسرائيل بدورها سارَعت لحصر العملية في إطارها الضيّق وإعلان التزامِها رسمياً بعدم الانجرار الى الحرب وهو ما كانت قد التزمت به قبل ذلك الى موسكو عبر إبلاغها عن نواياها في سوريا.

ويتردّد في الاوساط الديبلوماسية انّ موسكو ابلغت يومها ايران، عبر موفد طارَ على وجه السرعة الى طهران، بوجود نيّةٍ اسرايلية بردٍّ عنيف، ووفقَ هذه الاوساط الديبلوماسية فإنّ انقساماً حصل داخل القيادة الايرانية بين الرئيس روحاني وصقور الجناح المتشدّد الذين اعتبروا أنّ عدم الرد على رسالة مطار «تيفور» سيعني القبول بالقواعد الجديدة التي وضَعتها اسرائيل في سوريا.

والضربات الإسرائيلية تعمل على تجنّبِ الجيش السوري فيما اعتبرَته الاوساط الديبلوماسية تلبيةً للخطة الاميركية الجديدة التي تتعهّد بقاءَ الاسد في السلطة وترجمة ذلك بتجنيبِه الضربات العسكرية وبالتالي تقديم كلّ اشكال الاغراء له لانتشالِه من الحضن الايراني. وهذا المفهوم ردّده بشكل أو بآخر ولي العهد السعودي خلال زيارته الاخيرة الى واشنطن

وجاء قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي ليزيد الموقف صعوبة. وبخلافِ ظاهرِ الصورةِ، فإنّ العارفين يقولون إنّ الرئيس الاميركي يريد من قراره بالانسحاب من الاتفاق رفعَ مستوى الضغط على ايران للوصول الى اتفاق جديد يعطيه مكاسبَ اكبر في الشكل والمضمون، وهو يُراهن على صعوبة الوضع الاقتصادي الايراني لإلزام طهران بالتراجع خطوات الى الوراء.

وحسب مصدر ديبلوماسي أميركي في واشنطن فإنّ ترامب باشَر بانتهاج اسلوب ضغط مع ايران هو نفسه الذي انتهجه مع كوريا الشمالية، عن طريق التهديد والتهويل ثمّ الضغط على حلفائه الاوروبيين لإلزامهم بقرارات قاسية بهدف تطويق الخصم قبل إجباره على التفاوض، والواضح انّ ترامب اصبح اكثر جرأة في اتّخاذ القرارات الخطيرة بعد ان أحاط نفسَه بفريق جديد يميل باتّجاه المغامرة بدلاً من اعتماد اسلوب حذِر.

وقال رئيس مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات الاميركية مارك روبوتيرز إنّ استراتيجية ترامب يمكن تلخيصها برفض الالتزام بالاتفاقيات القائمة والتي يرى انّها ليست في صالح واشنطن سواء بالانسحاب او بالتهديد بالانسحاب، ومن ثمّ فرض ضغوط من اجل الحصول على صفقة افضل لكنّه حذّر من انّ هذه الاستراتيجية سلاح ذو حدّين، فقد تؤدي لنجاح باهِر كما لفشلٍ مريع.

لكنّ معارضي خطوة ترامب اخَذوا عليه ليس فقط ركوبَ موجةِ المغامرة التي لا احد يَضمن نتائجَها بل ايضاً إحراج الجناح الايراني المعتدل لدرجة يمكن القول معها توجيه صفعة للرئيس الايراني حسن روحاني الذي يواجه تحدياً ايرانياً داخليا.

في كلّ الاحوال فإنّ الضربة التي حصلت في سوريا والتي أتبِعت بالضربة الاميركية للاتفاق النووي، تشكّلان مرحلة من مسار طويل وصعب في الشرق الاوسط.

فالرئيس التركي رجب طيب اردوغان والذي يتحضّر لانتخابات داخلية مبكرة نهاية الشهر المقبل كان قد قال يوم اعلانِه إجراءَ الانتخابات قبل موعدها بأنّ لقراره اسبابَه الداخلية والخارجية ايضاً.

وفي جلسة مغلقة خلال ندوات ملتقى اسطنبول للصحافيين العرب أعطى وزير الثقافة والسياحة التركي نعمان قورتولومشي نظرةً استراتيجية لِما يريده فريق اردوغان اقليمياً. وأهمّية قورتولومشي انّه كان نائباً لأردوغان حين كان الاخير رئيساً للوزراء، والأهمّ أنه يشكّل أحد ابرزِ رجال فريق التخطيط السياسي لاردوغان.

ولم يخرج الوزير التركي من السياق التركي العام في توجيه الانتقادات لسياسة الولايات المتحدة الاميركية لكنّه رَسم صورةً اوضح عندما تحدَّث عن انتهاء صلاحية سايكس - بيكو، ما يفرض وجوبَ وضعِ اتفاقية جديدة للمنطقة. فالحدود التي رسَمها سايكس- بيكو هي حدود مصطنعة في الجانب السوري وآخَر في الجانب التركي، وكأنه يلمح بأنّ هذه الحدود سقطت، ذلك انه أتبَعها بالقول إنّ الغرب يحاول فرضَ حدود في أذهاننا ايضاً.

كما أنّ النظام الدولي الذي جرى انشاؤه عقب الحرب العالمية الثانية لم يعد صالحاً ويجب تعديله. وهو لم يستطع حلَّ المشاكلات التي نشأت في الشرق الاوسط، ذلك انّ احتكار خمس دول لقرارات العالم لم يعد صالحاً.

ومن العناوين اللافتة التي اطلقها قورتولومشي أنّ الحرب بالوكالة في سوريا شارفَت على نهايتها وأمامنا مرحلة جديدة.

وينطلق من هذا العنوان ليتحدث عن القواسم المشتركة بين تركيا وشعوب المنطقة: «نحن متقاربون ولدينا الكثير من القواسم المشتركة».

ويسرع في توضيح مقصدِه حول القواسم المشتركة والتي لا تعني فقط العامل المذهبي، معطياً مثالاً على ذلك وجود جامعة في ساحة تقسيم مقابل كنيسة كاثوليكية يجري ترميمها. وهو قصَد بذلك طمأنة الاقلّيات الدينية.

تحدّث في المطار الجديد الجاري إنشاؤه في اسطنبول ليكون اكبرَ مطار في اوروبا والمنطقة وربّما في العالم والذي يخطط له ليستقبلَ زهاء 115 مليون مسافر في السنة.

فعدا أنّ إنشاء هذا المطار سيؤدي الى اغلاق مطار اتاتورك من دون ان يحملَ المطار الجديد اسمَ اتاتورك، فإنه سيؤدي الى تكريس مرجعية اسطنبول في المنطقة رغم إخفاق فريق اردوغان في جعلِ اسطنبول عاصمة تركيا بدل أنقرة، ربّما يطمح لأن تصبح اسنطبول عاصمة الشرق الاوسط.

ولدى سؤاله عمّا إذا كانت السلطات التركية تسعى لاحقاً لإنشاء محور تركي بوجه المحور الايراني خصوصاً وأنّ النظام الرئاسي سيعطي اردوغان حريةً وسرعة اتّخاذ القرارات، شرَح اوغلو عن الصداقات القوية والعلاقات التي تربط تركيا بالعديد من شعوب المنطقة متجنّباً الاجابة المباشرة، او على الأقل لم ينفِ ذلك.

وما لم يتطرّق اليه وزير الثقافة والسياحة التركي حول التفاصيل الآنية للسياسة التركية وأسهبَ في شرحِه وزير الخارجية مولود جاويش اوغلو في جلسة مغلقة حيث اعتبَر انه كلّما تواصلت الحرب في سوريا شهدَت تزايدَ الاطراف المتدخّلة.

أوغلو دافعَ عن الإخوان المسلمين وعن سيف الخوف غيرِ المبرّر لبعض الانظمة منهم، رغم اعترافه بأنّ الاخوان المسلمين ارتكبوا عدداً من الاخطاء.
وفيما دعا لربط سوتشي بجنيف (الذي لم يفشل) عبر انشاء لجان، قال بأنّ حلب شكّلت منعطفاً في الحرب، وإنّها دشّنت مرحلة تعاونٍ مع روسيا.

وحاوَل أوغلو رسم سياسة بلاده في الشرق الاوسط والتي ستشهد رقماً قوياً بعد الانتخابات: معارضة واشنطن من دون الخروج من حلف الناتو، مواجهة اسرائيل ودعم الفلسطينيين من دون قطعِ العلاقات مع اسرائيل. التوازن مع طهران من دون الاصطدام بها. التوازن في العلاقة بين واشنطن وموسكو، معاكسة السعودية وحلفائها الخليجيين ولو من دون ضجيج، احتضان الاخوان المسلمين من جديد، ملاحقة التنظيمات الكردية التي تهدّد امنَ تركيا من دون هوادة او طلب إذن من احد.

ينتقد اوغلو السعودية التي ذهبَت إلى الحرب في اليمن لضرب الاخوان المسلمين، وهو ما جعلَ ايران تستفيد وتأخذ زمام المبادرة. ويسأل: ماذا يريدون من الاخوان المسلمين وهم موجودون حتى داخل السعودية. بعد الانتخابات سنركّز على الأزمة اليمنية.

وتحدَّث اوغلو عن علاقة دحلان بتمويل المجموعة الانقلالية في تركيا.

وفي معرض انتقاده العنيف لأخطاء السياسة السعودية وحلفائها أعطى مثلاً خسارة الرئيس سعد الحريري في الانتخابات، عازياً السبب ضِمناً للسياسة السعودية.

وفيما رَفض بحزم أيّ قوات عربية تحلّ مكان القوات الاميركية في سوريا بدا أنّ تركيا تستعدّ بدورها لتدشّنَ مرحلةً صعبة في الشرق الاوسط، وذلك بدءاً من الصيف المقبل الذي يبدو مرّةً جديدة بأنه سيكون حارّاً وطويلاً.