لا يمكن تحقيق النمو من دون إبداع حقيقي في القطاعات الأساسية. الاعتماد على القديم لا يكفي وإن كان هذا القديم جيداً. في عالمنا العربي، يغيب الجديد ونتعلق بالقديم حتى السيئ منه. التقاليد والتاريخ مهمان، لكن التقدم والتطور مهمان أيضاً وأكثر ولا بد من التفكير فيهما. لماذا نرفض الأفكار الجيدة ونقمع في مجتمعاتنا كثيراً الأفكار الخلاقة المتطورة والمطوِّرة للمجتمع؟ لهذه الأسباب، نتأخر عربياً عن المجتمعات الأخرى، ويهاجر شبابنا وشاباتنا وهذا مكلف بل معيب. 

المنافسة بين المجتمعات والاقتصادات والشركات تتطلب أكثر بكثير من القديم، أي أفكاراً جديدة تتحول إلى إنتاج جيد يحدث تقدماً واضحاً. جميع المجتمعات والشركات تحتاج إلى حلول خلاقة للإنتاج وللعلاقات بين قوى المجتمع وإلى أفكار لتنفيذ النمو الاقتصادي النوعي الذي يحدث تقدماً في مستوى المعيشة والرفاهية. الكفاءات المتنوعة مهمة من علم وأخلاق وخبرة، لكنها لا تكفي من دون أفكار خلاقة تحدث تقدماً نوعياً أي فارقاً واضحاً بين المجتمعات والشركات. جميع الحكومات والشركات يسعون إلى جذب المسؤولين الذين يملكون أفكاراً جديدة خلاقة وفاعلة.

لم تعد الكفاءة مرتبطة بالقوة الجسدية أو بالتقنيات العالية فقط، وإن تبقى لها قيمة مرتفعة، إنما أصبحت أكثر من أي وقت مضى تتكل على الأفكار التي تحدث نقلة نوعية في الإنتاج وحتى الاستهلاك. تغيرت طبيعة العلاقة بين الفكر والادارة والأرباح، بل أصبحت معقدة أكثر من أي وقت مضى. الادارة الجيدة النزيهة المعتمدة على الأخلاق والكفاءة مهمة جداً، لكنها غير كافية لتحقيق نقلة نوعية في المجتمع والشركة والاقتصاد. إحداث التقدم يتطلب إبداعاً كبيراً في هذا العالم التنافسي المبني على السباق في كل القطاعات. لا يمكن للأفكار الخلاقة أن تكون واضحة وقيّمة مباشرة، بل تتوضح مع الوقت عبر النقاش والبحث والتطوير. المناطق الجغرافية التي تحدث تقدماً اقتصادياً واضحاً هي التي تتكل على الجديد وليس على نقل الأفكار الموجودة في المناطق الأخرى. ما الذي صنع قوة أميركا وأوروبا واليابان؟ الأفكار الجديدة المبنية على البحث والتطوير في الجامعات والمعاهد. ما الذي يؤخرنا في المنطقة العربية؟ طبعاً الحروب والنزاعات العبثية، ولكن أيضاً غياب الأفكار المبدعة والخلاقة.

ما الذي يميز شخص عن آخر في عالمنا اليوم؟ ليست فقط الشهادات والجاذبية الشخصية، وإنما إذا كان هذا الشخص خاصة صاحب أفكار جديدة تميز الشركة أو الدولة التي يعمل فيها. الأشخاص أصحاب الأفكار الجديدة المبدعة أصبحوا مطلوبين في كل الوحدات والمجتمعات، وبالتالي أصبحوا أقوياء إلى أقصى الحدود. التفكير الخلاق هو ما نسعى إليه في كل الدول والشركات. ما الذي ميز الصين التي لم تكن خلاقة في الإنتاج؟ ميزها الإبداع في نوعية الإنتاج وتكلفته، وهذا ليس بالقليل. لم تعط الصين سلعاً جديدة مهمة، إنما أعطت سلعاً قديمة بشكل إنتاجي أفضل وبتكلفة متدنية، وهذا مهم جداً. يقول "جون هوكنز" في كتابه القيم عن "الاقتصاد الإبداعي" إن هنالك 3 حقائق موجودة في الإنسان والمجتمع والاقتصاد وهي مترابطة كما يلي:

أولاً: كل إنسان خلاق، أي أن هذه الصفة تولد معه وعليه الاستفادة منها وإظهارها لخير المجتمع. كل انسان يملك نوعاً من التصور للعلاقات الاجتماعية والمستقبل، وله القدرات للتوجه نحو هذه الأهداف. كل انسان يفعّل كفاءاته وقدراته عبر العائلة والمدرسة والتعليم والتدريب بشكل عام. الأفكار الجيدة تحتاج إلى من يفعلها ويطورها ويجعلها عملية، وهذا يتطلب نقاشاً وحواراً لا بد من حصولهما. هنالك أشخاص في غاية القدرة والذكاء ولهم أفكار جديدة تبقى معهم ولا تظهر بسبب الخجل أو غياب الفرص أو عدم إصدار الفكرة بشكل عملي يفهمها المجتمع ويوظفها للخير والتقدم. هنالك أشخاص لا يعرفون أن أفكاراً جيدة تكمن في عقلهم وتحتاج إلى ما يدفعها للظهور. الأوقات تخلق هذه الظروف وتدفع بالأفكار إلى الخارج.

ثانياً: كي يصبح الخلق ظاهراً وواضحاً لا بد من وجود حريات، بحيث يتمتع الانسان بالمساحة الكافية لإظهار كفاءاته وأفكاره الجديدة بجرأة. تأتي الأفكار الجيدة من أفكار أخرى أي هنالك تواصل في الأفكار، بل تحسن يظهر مع الوقت والنقاش. لا تأتي الأفكار من لا شيء، بل من أفكار أخرى ربما بدائية أو أولية. ما الفرق بين الإبداع والتجدد؟ الإبداع هو عمل شخصي فردي، بينما التجدد هو عمل عام موضوعي أي إنتاج مجتمع أو جمعية. هنالك علاقة قوية بين الفكرتين أو النشاطين، أي أن الإبداع ينتج التجدد بينما العكس ليس صحيحاً في معظم الأحيان.

ثالثاً: كي تنتج الحرية تقدماً في المجتمع، لا بد من وجود أسواق أي آليات لإنتاج القيمة والسعر. ليس للإبداع قيمة اقتصادية واضحة، خاصة قبل أن يتوضح ويصبح قابلاً للتنفيذ. هنا تكمن أهمية الأسواق التي من دونها لا إبداع ولا تقدم. هذا ما ميز الاقتصاد الرأسمالي مقارنة بالشيوعي حيث قمع الثاني الحرية الاقتصادية وفشل. النظام الرأسمالي عزز الحريات الاقتصادية ونجح بالرغم من وجود العديد من المشاكل أهمها سوء توزيع الدخل والثروة.

(لويس حبيقة - خبير اقتصادي)