هي  مجرد طرفة ليس إلا : كان ترامب يستعد للاعلان يوم السبت المقبل، في 12 أيار مايو الحالي، عن مهلة أخيرة للانسحاب من الاتفاق النووي  مع إيران، لكنه ما أن علم بنتائج الانتخابات اللبنانية التي فاز فيها "حزب الله" وحلفاؤه بالغالبية، وما أن شاهد الاجتياح الشيعي للعاصمة بيروت ، قرر في لحظة غضب، تقديم موعد قراره والتخلي عن فكرة المهلة الزمنية ونقض الالتزام الاميركي بالاتفاق النووي، وإستئناف  العقوبات على إيران وتشديدها الى أقسى حد ممكن.

سلوك الرئيس الاميركي  الاخرق ووعيه الضحل، يسمح بتداول مثل هذه الطرفة التي ترضي غروراً لبنانياً قديماً، وتجعل من غزوة الموتسيكلات الشيعية لبيروت ليل الثلاثاء، منعطفاً حاسماً في تاريخ لبنان والشرق، وشرارة تسببت بإشعال حرب جديدة في المنطقة التي إستباحها الايرانيون على مدى العقد الماضي، أكثر من أي وقت سابق ، وبسطوا سيطرتهم على أربع من عواصمها، التي ترفع هذه الايام الرايات الحسينية وتطلق الهتافات الشيعية.

لكن مهلا. موقف ترامب من الاتفاق النووي الايراني هو من الجدية والخطورة، بحيث لا يجيز  مثل هذه الطرافة اللبنانية: ثمة حرب فعلية تُشنّ حاليا على إيران، من قبل الاميركيين والاسرائيليين،وهي تشمل غارات جوية وصاروخية متلاحقة، على قواعد الانتشار العسكري الايراني في سوريا واليمن، وربما غدا في لبنان.. وهي لا تستبعد تغيير النظام في إيران، أو على الاقل تركيعه وفرض الاستسلام عليه من خلال القوة العسكرية، والحصار الاقتصادي والمالي.

هذا الهدف يمكن أن يكون له صدى عربي: إسقاط النظام الاسلامي الايراني الذي عينه الاميركيون والغرب لوراثة نظام الشاه، هو المدخل الطبيعي لوقف تلك الموجة الاسلامية العاتية التي تجتاح العالم العربي منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وإستمدت من الخميني والخمينية دفعاً هائلاً، وحافزاً دائماً للتقليد، وشجع رجال الدين  الأميين أو الموتورين على الترقي من مشايخ إفتاء إجتماعي الى قادة سياسيين لثورات ودول وأمم.

على أن ترامب، عندما أعلن تمزيق الاتفاق النووي، قال في النظام الايراني ما سبق ان قاله جميع أسلافه الاميركيين من رونالد ريغان وحتى باراك أوباما: الشعب الايراني العريق والعظيم، ذو الحضارة القديمة والثقافة العميقة، يستحق أفضل من هذا النظام  الذي يحكمه.. لكنهم جميعاً إنتهوا الى التفاهم والتواطوء مع محور الشر المقيم في طهران. وهو ما ساهم في توسع النفوذ الايراني في المجال العربي خاصة الى حدود لم يسبق لها مثيل.

المختلف الان هو العامل الاسرائيلي الضاغط على ترامب والحاسم  في قرارته، والذي دفعه الى قرار نقل السفارة الاميركية الى القدس، وجره الى الحرب مع إيران، والحصار لنظامها وشعبها. وهو ما كان ترامب وبوش الاب والابن متحررين منه الى حد بعيد، بل كانوا مخالفين في الغالب للرأي الاسرائيلي بان إيران على وشك إنتاج قنبلة نووية، أو بأن توسعها العربي ناجم عن قوتها وتفوقها، لا عن تهالك الكيانات العربية ووهن أنظمتها وتفكك مجتمعاتها.

هذه المرة ، إسرائيل هي التي تقود الحرب الاميركية وتدير عملياتها. وهي تقول للاميركيين اليوم أنها قادرة وحدها على كبح جماح إيران، التي أنتهكت الخطوط الحمراء في سوريا تحديداً..مستفيدة من ضعف النظام السوري ومن حاجة روسيا الى عنصر شغب إيراني على أميركا. لا حاجة الى تدخل عسكري أميركي مباشر في تلك الحرب، ولا حاجة الى إرسال قوات برية اميركية إضافية إلى أي مكان في الشرق الاوسط . إيران لن تقوى على الرد، ولن تجروء ربما على إستخدام أدواتها ومليشياتها العربية في المواجهة.

في الاتفاق النووي والسياسي مع إيران، شوائب وثغرات تسلل منها الايرانيون في الاعوام القليلة الماضية. لكنها كلها لا تبرر إشعال حريق كبير، يمكن أن يمتد الى داخل طهران. وما زالت هناك فرصة للتعديل والتصحيح، والتراجع. نتنياهو ينتهز فرصة ثمينة لدخول التاريخ الاسرائيلي من بابه الواسع. لكن ترامب ليس محارباً، و    لا أميركا في وارد الخروج الى حرب جديدة في الشرق.  وما يبدو اليوم من علامات يوم القيامة، يمكن ان يصبح غداً من مؤشرات  لقاء ينشده  وربما يتمناه الرئيس الاميركي مع نظيره الايراني حسن روحاني، بعد أن يحذو خامنئي حذو الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون.. ويعد بأن الاجتياح الشيعي الاخير لبيروت لن يتكرر.