إيران مهما تبجحت وتباهت بصواريخها وميليشياتها ومفاعلاتها وعلمائها، تبقى دولة من دول العالم الثالث يصعب أن تسمح لها القوى الكبرى المهيمنة على العالم بأن تكبر أكثر من المقرر والمسموح، وأطول من الزمن المقنن والمرسوم.
 

إن المراقب للحياة السياسية الأميركية، من داخلها، يعلم بأن اللوبيات والشركات ومراكز القوى المحلية والدولية، كلَّها مجتمعة، عواملُ ترسم للرئيس ولإدارته الخطوط الحمر والخضر، وتحدد له ما يستطيع فعله، وما لا يستطيع.

بعبارة أوضح. إن القوة الحقيقية الفاعلة في أميركا هي للمصارف العظمى والشركات المئة الكبرى، ولشبكات الإذاعة والتلفزيون والصحافة، ومواقع التواصل الاجتماعي، ولوبيات الحكومات الخارجية الغنية والقوية، والكثير من الشركات الأجنبية كذلك.

يعني أن أميركا، بقوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وليس برئيسها وحده، قد اختارت ملاعبة الفأر الإيراني، وجرَّه إلى ساحة نزال لا يقدر على تحمل ثمنه وانعكاساته وتأثيراته على مصيره ومستقبل وجوده في السلطة في إيران ذاتها، وربما، قبل ذلك، على وجوده الاستعماري في الدول العربية التي تمكن من التسلل إليها.

فإيران الخميني، ومن بعده خامنئي، كبرت كثيرا، وانتفخت أكثر، ومدت يدها في “خُـرج” القوى الكبرى ومصالحها وحساباتها في المنطقة، وهذا من الممنوعات على دولة من دول العالم الثالث، حتى وإن كانت بحجم الإمبراطورية الفارسية الجديدة.

والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حين قبل بالاتفاق النووي الإيراني، بعيوبه الكثيرة والخطيرة، كان في أدنى درجات جبنه وكسله وخوفه من المواجهة الحازمة، مع النظام الإيراني وغيره، فقرر ترحيل الصراع مع إيران إلى الرئيس لذي سيأتي بعده، ليختار بين تمزيقه واعتماد لغة القوة والحزم والحسم السياسي والاقتصادي وربما العسكري أيضا، أو القبول بإيران، بكل شرورها وأخطارها على مصالح الولايات المتحدة وأوروبا والعالم، وترك مفاتيح المنطقة لها لتديرها كما تشاء.

والرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومعه القوى الفاعلة في أميركا، آتٍ ليعيد لأميركا هيبتها وليثبت للعالم أن المصالح تغيرت، وتغيرت المواقف هي الأخرى.

وما قراره الخروجَ من الاتفاق النووي وإجازتُه عقوبات جديدة على إيران سوى حلقة أولى من مسلسل يستهدف تحصيل ما لأميركا من مستحقات على دول عديدة ينبغي لها أن تُستحصل بأية وسيلة. والمواجهة مع إيران هي واحدة من معارك الربح والخسارة التي يبرع فيها ترامب أكثر من سواه.

وعيب المرشد الأعلى الإيراني وكبار أعوانه ومستشاريه أنهم لا يقرأون هذه التقلبات والتبدلات والتحولات. فقد تملكهم وهْمُ القوة وغرورها، وأعمتهم عنصريتهم وطائفيتهم عن تلمس الصراط المستقيم.

فإيران، مهما تبجحت وتباهت بصواريخها وميليشياتها ومفاعلاتها وعلمائها، تبقى دولة من دول العالم الثالث يصعب أن تسمح لها القوى الكبرى المهيمنة على العالم بأن تكبر أكثر من المقرر والمسموح، وأطـول من الزمن المقنن والمرسوم.

معلوم أن نظام الخميني، من أول وجوده، لم يكن يختلف عن باقي أشقائه أبطال الثمن الباهظ من حكام الدول “المجاهدة” المغرمة بالتصميم على تكبيد المعتدي ثمنا باهظا، ولكن بعد حين

فهي تنفق ثلاثة أرباع ثروات الشعب الإيراني على أوهام امتلاك السلاح النووي والصورايخ الباليستية العابرة للقارات، وعلى الميليشيات والأحزاب والمنظمات التي تستخدمها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ودولٍ بعيدة أخرى لا يستطيع غيرُ الغارقين في العلم فهم الجدوى التي يحلم بجنيها المرشد الأعلى في مواصلته الإنفاق على التوسع والتدخل والحروب والمواجهات، حتى وهو يرى شعبه تخنقه الأزمات والفقر والبطالة وقلة الموارد.

ومن اللازم هنا أن نتذكر نظرية أطلقها روبرت ماكنمارا الذي كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي عام 1962 تقول “لنجعل الاتحاد السوفييتي قلعة مسلحة، ولكن لا تملك الزبدة”.

وبالفعل أجبرت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون حكومة الاتحادَ السوفييتي على دخول سباق تسلح تقليدي ونووي هائلين، وأدخلوه في حروب باردة وساخنة في جمهورياته المتعددة أنفق فيها القسم الأكبر من ثرواته على ترسانته الحربية، حتى أصبح قوة نووية هائلة ولكن بشعب يعيش على أقل من الكفاف، الأمر الذي جعله يتهاوى على يد ميخائيل غورباتشوف من الداخل، ودون حروب. وإيران اليوم واقعة في نفس اللعبة الخادعة.

فتعالوا ودققوا معي في الخيارات المتوفرة للنظام الإيراني لمواجهة التحديات المستجدة، والاستعداد لمعاقبة أميركا ومواجهتها في العراق وسوريا واليمن، على وجه الخصوص، في ظل العقوبات القديمة والجديدة، وانعكاساتها على الإيرانيين.

وحين يخاطب الرئيس الإيراني روحاني مواطنيه الإيرانيين، بقوله “إننا سنواصل التخصيب وسوف نستمر في أبحاثنا النووية، ولكن في الوقت المناسب، وبعد التفاوض مع شركائنا”، بعد أن كان قد هدد ترامب بعواقب وخيمة إن هو قرر الخروج من الاتفاق النووي، فهو يبرهن على حجم الارتباك الذي وضع فيه ترامب نظام الولي الفقيه، وعلى أن زمن المفاخرة بالصواريخ القادرة على ضرب البوارج الأميركية وتهديد مصالح أميركا في المنطقة، وخاصة في الخليج العربي والبحر الأحمر والمضائق قد ولى وصار من تخرفات الماضي.

ومعلوم أن نظام الخميني، من أول وجوده، لم يكن يختلف عن باقي أشقائه أبطال الثمن الباهظ من حكام الدول “المجاهدة” المغرمة بالتصميم على تكبيد المعتدي ثمنا باهظا، ولكن بعد حين، وفي الزمان والمكان المناسبيْن.

اللهم لا شماتة.