بعكس ما طالبَ به دعاةُ المنهج البنيوي بضرورة عزل النص الأدبي عن المؤثرات الخارجية ودراسته بوصفه فقط وحدةً لغوية، بل أكثر من ذلك أعلنوا موتَ المؤلّف بمعنى أنّ عملية القراءة والحفر في طبقات النص يجب أن تكون خارج محورَ المُنتِج، لكن يشقُ الإلتزام بهذه النظرية خصوصاً بالنسبة لمَن لايتعامل مع النصوص الأدبية وفقاً للتعقيدات النظرية بقدر أنّ ما يهمه هو عنصر المُتعة في العالم الموازي.
 

إلى جانب ذلك ما انفكّت حياة الكُتاب والمبدعين جزءاً أساسياً من إهتمامات القارئ وكثيراً ما يكون الردُ للسؤال عن حياة الروائي هو أنَّ سيرته متناثرةُ في أعماله وكل شخصية روائية تُمثل جانباً من حياة الكاتب.

من المعلوم بأن نواة بعض الأعمال الأدبية ليست إلا تجارب حياتية لكاتبها في القالب السردي مثل (المقامر) لدويستويفسكي وما قدّمه كل من تشارلز بوكوفسكي ومحمد شكري في الأعمال الروائية لا يَخرجُ من هذا الإطار أيضاً. زدْ على ذلك فإنَّ الدافع وراء فعل الكتابة هو ما يريدُ القارئ معرفته خصوصاً لدى مَن احترفوا صنعة الرواية.

ومن هنا تأتي أهمية كتاب (حياة الكتابة) الصادر حديثاً من «دار مسيكلياني، تونس» حيثُ يضمُ مقالات نخبة من الروائيين الذين يستعيدون جانباً من إشتغالاتهم في مجال الكتابة مشيرين إلى البدايات والقدر الذي قادهم نحو هذا المصير. وما يلفت الإنتباه أكثر في هذا السياق هو شهادة الروائي الياباني هاروكي موراكامي والروائية التشيلية إيزابيل الليندي في اكتشاف مسلك الرواية. هذا إضافة إلى ما يسرده الروائي التركي أورهان باموك عن تفاصيل تأليف عمله المعنون بـ(متحف البراءة) إذ قضى صاحب «غرابة في عقلي» شطراً من حياته في الرسم قبل أن يصبحَ رسّاماً. كما أنّ مواطنته أليف شافاك إستنكهت سرائرَ قصص جدّتها عقب قراءة ماركيز.

المُنقذ

يتصدرُ الكتاب بعد مقدمة مترجمه (عبدالله الزماي) مقال (إدواردو غاليانو) الذي يفصحُ بأنَّ الهدف من تأليف رائعته (كرة القدم في الشمس والظل) هو تحقيق التصالح بين محبّي القراءة ومُعجبي الكرة غير أنَّ هذا الكتاب ينقذ حياة شخصية سياسية إذ ينقل مؤلف (ذاكرة النار) عن (فيكتور كونتانا) بأنّه وقع في 1997 بيد القتلة المأجورين وانهالوا عليه ضرباً، وبينما هو على مشارف الموت تناهى إلى سمعه بأنَّ أفراد العصابة يتحدثون عن الكرة فإذا به يشارك في النقاش مدلياً برأيه ولم تكنْ معلوماته إلّا ما قرأه في كتاب إدواردو غاليانو وبذلك تركوه مُبلغين إياه بأنَّه في مأمن. ومن الطريف ما يسرده غاليانو عن أنّ كتابه (الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية) الذي رُشّح لجائزة (كازا دي لاس أمريكا) في كوبا حُظّر في معظم بلدان أمريكا اللاتينية وأحرقته السلطات العسكرية لكن في بلده (الأوروغواي) كان الكتاب يُتداول بحرّية بين السجناء لأنَّ الرقباء زعموا بأنه من الكتب الطبية.

يسترسلُ غاليانوُ مسترجعاً ملهمة إحدى قصصه في مجموعة المرايا، وهي (ماتيلدا لاندا) التي تنتحرُ احتجاجاً على سلطة فرانكو في إسبانيا. أكثر من ذلك يُنقلُ عن الشخص الذي حضر في أمسيته المقامة في (أورينس) الإسبانية رأيُه عن أسلوبه قائلاً له «من الصعب أن تكتب بهذه البساطة» وفي الفقرة الأخيرة يشيرُ غاليانو إلى معايشته عمّال المناجم في (لالاغو) ورغبتهم في الإستماع إلى قصص البحر.

وبدورها تعود الكاتبة التركية (إليف شافاك) إلى مرحلة الطفولة المُلَفَعة بغلال الحزن ومن ثُمَّ إهتدت إلى أرض القصص وصاحبت العُقلاء والمجانين في عالم الكتب وفارقت أجواء البيئة المُحافظة التي هيمنت عليها السلطة البطريركية، ولم يعد يشغلها سوى ما هو طيّ الكتب وتبدّد الشعور بالوحدة في أسرة مكوّنة من ثلاثة أشخاص، الأمُ كانت تعمل معالجة تساعد الناس وهي التى شجعتها على الكتابة عندما إشترت لها دفتراً فيروزيَّ اللون لتسجّلَ فيه يوميات فتاة صغيرة. إذ تؤكد مؤلّفة (بنات الحواء الثلاث) بأنَّ الكتبَ غيّرتها وأنقذتها وأقامت لها عالماً خالياً من الرتابة والملل.

المُعالجة

ما تحكيه الكاتبة التشيلية (إيزابيل الليندي) عن تجربتها في اختيار الكتابة هو ملمح آخر من سلسلة قصص الروائيّين حول إحتراف مهنتهم إذ تستشهدُ صاحبة (ماوراء الشتاء) بما كتبه (إدواردو غاليانو) في كتاب (المُعانقات) عن العجوز المُتكتم الذي ظنه اللصوص غنياً فسطوا على بيته فعثروا على صندوق لكن هذا الكنز لم يكن ذهباً إنما مجموعة من الرسائل، فهؤلاء بدأوا بدورهم يعيدون إليه تلك الرسائل عبر ساعي البريد وبذلك كان يستقبل العجوز كل أسبوع ما يحمله إليه ساعي البريد بسعادة كبيرة.

تعتقدُ شهرزاد أمريكا اللاتينية بأنّ مهنة الأدب شبيهة تماماً بما قام به اللصوص أن يأخذوا شيئاً واقعياً وبحيلة سحريّة يحوّلونه إلى شيء جديد. أضفْ إلى ذلك فإنَّ مؤلّفة (إبنة الحظ) تسردُ حكاية روايتها الأولى (بيت الأرواح) عندما كانت منفية في كاراكاس تتلقّى مكالمة تخبرها بأنّ الجدّ يُحتضر. وبما أنّ العودة إلى تشيلي لتوديع الراحل مستحيلة عوّضت بُعْدها بالكتابة إلى جدِّها على رغم قناعتها أنه لن يقرأ ما تكتبه.

وبذلك تتوالد من الخبر المؤلم والبعد رواية مُتكاملة. ومن ثُمَّ تنصرف إلى رواية (باولا) التي جاءت مترصّدة لما مرّت به إبنتها من معاناة مُهلكة إذ رقدت على السرير لمدة سنة قبل أن تتوفى. هنا تبدو الكتابة والسفر بالنسبة إليها رحلة إستشفاء من حزن مُبرح. فضلاً عمّا أسلفت الإشارة إليه فإنّ إيزابيل الليندى تبوح بالحميمية التي تربطها باللغة الإسبانية ومناخ الأسرة التي نشأت فيها وإخفاقاتها في الزواج وأسفارها وما يُشكلُ الثيمة الأساسية في روايتها، ويتناول ماريو بارغاس يوسا محاولاتِه للتغلّب على الخوف من الطيران بقراءة الكتب.

ويذكر عناوين روائية رافقته في رحلاته ويفردُ الكاتب البريطاني من أصل ياباني (كازو إيشغور) خطته لكتابة (بقايا النهار) وانقطاعه عن كل شيء تحضيراً لانطلاقة المشروع، مُوضحاً أنّ «الفيلم الذي شاهده في السبعينات ألهمه بطله بنحت شخصية (ستينفز) رئيس الخدم في (بقايا النهار)» ويبدي رأيه عن توقيت الكتابة مقتنعاً بأنّ البدءَ في الوقت المبكر قد يسبّب القدر نفسَه من الضرر الناجم عن البدء متأخّراً للغاية. ويدلي (هاروكي موراكامي) بشهادته في صفحات متحدِّثاً عن التحوّل من صاحب المقهى إلى الكتابة لافتاً إلى فضيلة الكتابة بالإنكليزية.

ويفرّق الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو في ورقته بين أنّ الكاتب هو مَن لا يتخبّط مثل السمكة داخل السجن أو في المنفى بل تنمو لديه أجنحة وخياله سيكون أكثرَ حدّة وماذا تفعل إذا ساقك القدر إلى تلك التجارب وأنت لا تجيد الكتابة؟ من جانبه يشرحُ يان مارتل عن ثلاثة عناصر أساسية في الكتابة: الإلهام، العمل الجاد، التأثر معرِّضاً العناصر هذه في خطوط رواية (حياة باي)، ويطالبُ أورهان باموك بإنشاء المتحف الضام لممتلكات عامة وحياة عادية مثلما تفعل الرواية. وما تتوصل إليه بعد نهاية هذه الأوراق أنَّ الكتابة هواية ورغبة بقدر ما هي صناعة تتطلب مجهوداً وصراعاً مع الكلمة.

(كه يلان محمد)