يمكن القول إن محتويين لا ثالث لهما ينقلان ملايين المشاهدين من قلق إعلام الأزمة إلى راحة إعلام الأمان والاستقرار. أخبار دراما رمضان، وترتيب مشاهدات ما قبل الإفطار، وتنظيم مسلسلات ما قبل السحور، ومعها بالطبع تنويهات سريعة مصحوبة بتحليلات عميقة وتوقعات تحليلية عن نهائيات كأس العالم المرتقبة وجدول المباريات وما يمكن أن تشاهده أين وعلى أي تردد.

تردد الشاب الصغير كثيراً قبل أن يطالب والده بالاشتراك في باقة قنوات ستبث مباريات كأس العالم. فالصغير يعرف أن والده يتخذ موقفاً حازماً حاسماً مرتكزاً على أسباب سياسية ومبنياً على اقتناعات أيديولوجية ونابعاً من عقيدة وطنية. لكن الصغير يؤمن بأن كأس العالم فوق الجميع، وأن متابعة المنتخبات العربية هي الأصل في الوطنية، وأن غاية المشاهدة تبرر الاشتراك في القناة التي تبثها.

البث التلفزيوني العربي يراه المراقبون عن بعد مندرجاً تحت بند بث الأزمات أو إعلام التحولات وفي أقوال أخرى إعلاماً استثنائياً تحت وطأة الحروب والاقتتالات والتربصات والمؤامرات. هذه الظروف الاستثنائية تبرر أحياناً المحتويات غير المهنية أو تلك التي تحيد عن المصداقية والخبر المنزه عن الرأي والتنوير باعتباره أداة التغيير والحجب غير المعلن لما تقدمه شاشات أخرى أو توجهات مختلفة إلى حين استقرار الأوضاع وانقشاع الأزمات.

الأزمات التي تعصف بأرجاء شتى في العالم العربي أدت إلى ظاهرة تلفزيونية فريدة وعلى الأرجح غير مسبوقة وهي هيمنة إعلام الأزمات على المحتوى المقدم للمشاهد، مع اقتراب تحول المادة الاستثنائية النابعة من طبيعة التعامل مع مواطن الخطر ومنابع التهديد إلى مادة اعتيادية مرشحة للتحول إلى منهج إعلامي مستمر حتى بعد انتهاء الأزمات.

الأستاذة في كلية الإعلام جامعة القاهرة الدكتور هويدا مصطفى تقول في ورقة بحثية عنوانها «دور الإعلام قبل وأثناء وبعد الأزمات والصراعات المسلحة»، إن هناك عناصر للتخطيط الإعلامي وقت الأزمات تتلخص في خمس خطوات: الأولى هي تحديد الأهداف العامة والخاصة حيث اكتشاف علامات الإنذار، ثم الاستعداد والوقاية واحتواء الأضرار ثم استعادة النشاط والتعلم. والثانية هي تحديد الجماهير المستهدفة، فالأزمات المجتمعية تكون محل اهتمام الجمهور العام، في حين تكون الأزمات المحلية المحدودة ذات جمهور خاص، وتطل هناك أزمات إقليمية أو دولية لها مستويات مختلفة من جمهور ذي خصائص متباينة. وتشير الخطوة الثالثة إلى تحديد الوسائل والإمكانات المادية والفنية والبشرية المتاحة. والخطوة الرابعة تكمن في إعداد الرسالة الإعلامية حيث شروط ومعايير عامة من إشباع حاجات الجمهور للمعرفة ومصداقية المصادر الرسمية وغير الرسمية والدقة والموضوعية في نقل المعلومات، بالإضافة إلى تكرار المضمون مع تغيير شكل الرسالة لتصل إلى جمهور متنوع الخصائص.

إلا أن طبيعة الأزمات التي يمر بها هذا الجزء من العالم لها النصيب الأكبر من تنوع الخصائص. فأزمة هذه الدول أشعلتها تلك الدول، وبقاء تلك الأنظمة في دول بعينها يعتمد على تخطيط هذه الدول المعلن تارة والمحجوب تارة أخرى، والجماعات المتناحرة هنا يتم تمويلها من هناك، وما يقدم على هذه الشاشة باعتباره نضالاً من أجل الحرية يُعرض على تلك الشاشة على أنه اقتتال من أجل التفتيت.

ولأن كل ما سبق واضح وضوح الشمس في الأثير العربي– من شاشات محلية وإقليمية وكذلك دولية موجهة للعرب- على مدار السنوات السبع الماضية، فقد وجد المشاهد العربي نفسه أمام شاشات تبث من منطلق إعلام الأزمات ولكن وفق تعريف كل منها لطبيعة الأزمة ومحركها وتصورها للحلول. وكانت النتيجة أن المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج– مع إضافة الملايين المهاجرة والنازحة واللاجئة في بقاع الكوكب- يتابع شاشات أزمات بنكهات تتعدد بتعدد تعريف كل منها للأزمة.

الأزمة الحقيقية تكمن في التركيبة المتناقضة للأزمات العربية، وهو ما أدى إلى شاشات عربية متناقضة، تبث رسائل إعلامية وأخباراً وتحليلات متناقضة، ذات أهداف متناحرة يقف الواحد منها في مواجهة الآخر، فإما قاتل أو مقتول. هذه التركيبة التي تتفجر احتقاناً وتضارباً بتركيبتها الرهيبة في وجوه المشاهدين 24/7 على مدار ما يزيد على سبع سنوات.

ولأن الطبيعة البشرية لا تبقي أدرينالين الأزمات حياً لفترات طويلة، فإنها تذهب إلى حال سبيلها بعد فترة وإن بقيت حية على الشاشات. ووفق بحث منشور في دورية المركز الديموقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية للدكتور عادل مراد، فإن معظم الناس يتأثرون بالأزمة عند ذروة حدوثها ونقل أحداثها، لكنهم ينسونها أو يتناسونها بعد فترة. ويشبه مراد دورة حياة الأزمة مع دورة حياة الكائن الحي من حيث الميلاد ثم النمو فالنضج وصولاً إلى مرحلة الاحتضار والموت.

المثير في المشهد العربي هو احتضار الأزمة افتراضياً، سواء باختيار المشاهد التوقف عن المتابعة، مع استمرارها وانتعاشها فعلياً أو عبر اعتياده أخبارها ومن ثم تقلص أهميتها رغم استمرار تهديدها لحياته.

ومسلسل الإثارة العربية لا ينتهي. فالأزمة (أو بالأحرى الأزمات) الدائرة رحاها تتنحى جانباً على الشاشات في المواسم والأعياد. حرب ضروس هنا واقتتال شرس هناك لا يغيبان عن التغطية محلياً وإقليمياً، لكن مع حلول شهر رمضان المبارك تتم إزاحتهما لحساب استعراض المأدبة الدرامية وبرامج المقالب وفقرات الترفيه وفتاوى الصيام والإفطار، وكأن لا حرب ولا من يحزنون. والإزاحة هذه الآونة مزدوجة، فمع رمضان يأتي الحدث الكروي الأهم ألا وهو كأس العالم لكرة القدم في روسيا.

(أمينة خيري)