تحوّلت السياسة في بلادنا، وربما في بلدان أخرى، الى "نشاط" يشبه في موسمياته وتركيبته البنيوية، تركيبات فرق كرة القدم. لا أحد يسأل ليونيل ميسي مثلاً عن ميوله السياسية قبل ضمه الى فريق برشلونة، ولا أحد يعتب على البرازيلي نيمار لتركه فريقه الأصلي للإنضمام الى باريس ـ سان جرمان، فالقضية لا تتعلق بالايديولوجيات ولا بالولاء المطلق الى فريق (أو وطن)، بل ترتبط أساساً برأس المال والعرض الاوفر. هكذا، وبشكل مماثل، جرت عمليات تركيب اللوائح في لبنان، وهي، باستثناء لوائح المجتمع المدني، شبيهة جداً بتركيب فرق كرة القدم من دون أي إعتبار للمبادئ والمواقف السياسية. 

هكذا وضع إستراتيجيو الفرق الكبرى، الخطوط العريضة لتشكيلاتهم الرياضية، وبعد مفاوضات سهلة في بعض الاحيان ومضنية في أحيان أخرى، تمّ تركيب اللوائح على أسس واضحة: أولاً، على كل لائحة أن تضم عناصر الهجوم، وهما واحد أو إثنان يتميزان ببلاغتهم وعنفهم اللغوي عند الضرورة، ومن ثم اركان "الوسط" الذين يسيطرون على الملعب ويؤمّنون التواصل مع "الماكينات الانتخابية"، وأخيراً عناصر الدفاع المولجة تأمين الدعم المادي للائحة.

في سبيل إنجاح هذه "الخلطة النيابية"، حصلت "تبديلات" كبرى ومفاجئة بين الفرق المختلفة (كانتقال ميشال معوّض الى صفوف "التيار الوطني"، ويوسف خليل الى صفوف المعارضة)، كما جرى أيضاً إدخال عناصر جديدة من المتموّلين الذين لم يدخلوا الحلبة السياسية من قبل، بل كانوا ضمن طبقة "رجال الاعمال"، وإن كانت تحوم حول بعضهم الشبهات.

هذا التحوّل البنيوي في التركيبة السياسية في لبنان، لا يمكن فصله عن التحوّلات الكبرى في العالم، حيث نجح المستقل إيمانويل ماكرون في كسر الازدواجية التقليدية، "يمين ـ يسار"، لينفذ بين الاثنين، من دون أن يعرف أحد حتى اليوم إذا كان هو من اليمين أو من اليسار. لكن المعروف أن ماكرون نجح من خلال خطابه الذي يعلن إفلاس الاحزاب التقليدية ومن خلالها إندثار "الإيديولوجيات"، في ما يشبه إعادة تكرار لنظرية فوكوياما الشهيرة بـ"نهاية التاريخ" وانتصار الليبيرالية. هذه الليبيرالية ذاتها هي التي تحكم اليوم لعبة كرة القدم في العالم، مُطلقةً العنان لتبادل اللاعبين ولتصنيفهم بحسب قدرتهم "التجييرية"، واضعةً البعض بمثابة "الآلهة" وآخرين بمرتبة "داعمي اللوائح" الذين يبقون على خشبة الانتظار كاحتياطي كرة القدم.

من هذا المنطلق يمكن فهم تقلبات السياسيين اللبنانيين، وهم أكثر الناس تأثراً بلعبة المال والسلطة، إذا أدركوا أن مسألة المبادئ والمواقف لم تعد هي الأساس في التعاطي السياسي وإنما أصبحت المسألة تتعلق بالقدرة على نسج التحالفات الموقتة والمرحلية، وعلى التوصل الى "تسويات" براغماتية تحفظ لكل فريق قسطاً وافراً من السلطة ومن التسلط على الناس والبلاد.

في ظل هذه اللعبة، لا بد من أن تفوح روائح الصفقات المشبوهة، من دون أن تشّكل هذه إحراجاً للّاعبين الذين يعرفون أن اللعبة تقتضي تحويل الانظار عن هذه العمليات الاحتيالية في اتجاه شحن موسمي للغرائز الطائفية، التي تتحوّل الى نوع من قنابل مسيلة للدموع تحجب الانظار عن القضايا الأساسية في المجتمع وتعيد الجميع الى منطقه القبلي، والى نصرة "فريقه الرياضي" الأساسي. وكما تتحوّل التصفيات بين فرق كرة القدم، بحسب الاطباع والتقاليد، الى مبارزات لا تخلو من العنف أحياناً بين "أنصار" هذا الفريق أو ذاك، هكذا أيضاً بدأت تلوح مظاهر التصادم بين الفرق السياسية في لبنان، فيما يعمد أنصارهم الى إثبات قوتهم الجسدية على اتباع المرشحين المستقلين، أي الفرق الضعيفة، كمرحلة أولى من الاستعراض القبلي.

هنا أيضاً تجدر الاشارة الى مقاربة أخرى بين الفرق السياسية وفرق كرة القدم: فكما اصبحت هذه الأخيرة تحت سيطرة مصالح أجنبية، ومنها شركات طيران خليجية إستحوذت على القسط الأكبر من ملكيتها، هكذا ايضاً تتمتع الفرق السياسية الكبرى في لبنان بتمويل خارجي، لا ينقصه سوى أن يرتدي مرشّحوه القميص الممهور بالعلامة التجارية للجهة الممولة. كذلك تتمتع الفرق السياسية الكبرى، على مثال نوادي كرة القدم، بأقنيتها الاعلامية الخاصة التي تبث من خلالها دعاياتها الحماسية لجمهورها و"بيئتها الحاضنة".

إن التشبيه بين لعبة كرة القدم، أو ما تحوّلت اليه من عملية تجارية رابحة على مستوى عالمي، وبين اللعبة السياسية في لبنان بالطبع، ليس تشبيهاً مطابقاً في كل مواصفاته. فالمؤسسة الناظمة للعبة كرة القدم تمكنت ولو بعد وقت طويل، من تطهير المؤسسة من أركانها الفاسدين ومن إعادة تنظيم صفوفها، كما أنها تسهر على أن لا يتم في أي وقت من الاوقات إرتباط "الهيئة المشرفة" والمنظِّمة للعبة، أو الحكّام فيها، بأيٍّ من الفرق اللاعبة، حفاظاً على صدقية اللعبة. لكن هذا المبدأ الأساسي، للأسف، لا يسري على اللعبة في لبنان، حيث التماهي بين اللاعبين السياسيين ومنظّمي المباراة لهو أمر طبيعي، ومن "التقاليد" الشعبية التي لا يمكن تفكيكها. إلا إذا حصلت الثورة.

في إنتظار "الكلاسيكو الكبير" في 6 ايار، لا ينتظر أحد بالطبع إنهيار أحد النوادي الكبار، فهل يعقل مثلاً أن يسقط ريال مدريد من المنافسة، اللهم إلا إذا انتقل رونالدو في خطوة مفاجئة الى فريق برشلونة!

كادر

ترتبط عمليات تركيب اللوائح في لبنان برأس المال والعرض الاوفر. وهي، باستثناء المجتمع المدني، شبيهة جداً بتركيب فرق كرة القدم من دون أي إعتبار للمبادئ والمواقف السياسية .

(ايلي حداد)