عيدٌ بأي حال عُدت يا عيدُ... يحلّ عيد العمّال هذا العام ونسبة البطالة تفوق الـ 30 في المئة كمُعدّل عام وأكثر من 50% لدى الشباب. هذا الواقع الآليم يجعل من لبنان بلدًا يتصحّر من مفهوم مُقدّس أرسته الكتب السماوية، ألا وهو العمل. 

النظرة الفلسفية

ينبع مفهوم العمل من التعاليم الدينية التي تنصّ على أن الله عَزَّ وجَلّ خلق العالم بستّة أيام وارتاح في اليوم السابع. وإذا كان هذا المفهوم يحمل في طياتّه المجهود الشاق (من خلال الكلمة اللاتينية (labor، إلا أن العديد من الفلاسفة حوّلوا هذا التفسير إلى مفهوم آخر ألا وهو سدّ الحاجات ليُصبح بعدها مفهوم العمل نشاطاً إنسانياً وتاريخياً. فالفيلسوف هيغيل يُعرّف العمل على أنه "رغبة يائسة" حيث إن العلاقة السلبية بين الشخص والشيء تُمثّل شكلًا من أشكال هذا الشيء بالذات وتالياً يُصبح هذا الشيء مستداماً بسبب تدخّل الإنسان من خلال عمله (العمل هو نشاط يؤدّي إلى خلق الأشياء). أمّا الفيلسوف كومت، فيرى أن العمل هو استخدام كل الثروات والقوى الطبيعية أو الاصطناعية التي تمتلكها الإنسانية بهدف إكفاء حاجاتها .(Positivism) ويرى ماركس أن العمل هو الحدث الذي يحصل بين الإنسان والطبيعة حيث يؤدي الإنسان دور "قوّة طبيعية" يُسخّرها بهدف خلق شيء مُفيد (رأس المال). ويرى فولتير أن العمل يُبعدنا عن ثلاث ظاهرات سلبية هي الضجر، الرذيلة والحاجة. وذهب بعض الفلاسفة إلى حدّ إعطاء العمل ثلاثة أبعاد: كوسمولوجي، اجتماعي وإنساني.

من هذا المُنطلق يُمكن القول إن مفهوم العمل هو أحد أبعاد الوجود الإنساني الذي يُمكن اعتباره كدليل أنثروبولوجي وواقعية تختلف طرائقها ومكانتها وقيمتها بشكل جذري بحسب المجتمعات والعصور. وهذا يؤدّي إلى الاستنتاج أنه لا يوجد وظيفة موحّدة تستطيع وصف العلاقة بين الإنسان والطبيعة وتالياً خلق تنظيم اجتماعي وقدرة خلّاقة.

هذا الواقع جعل العمل يتطوّر منذ القدم حيث كان العمّل يُمثّل الإهانة الاجتماعية لوجود عامل غريب يتصل بالكمال الأخلاقي. أمّا في العصر الحديث فقد أصبح العمل مصدر الثروة بحسب Locke، وأساس القيمة بحسب Smith، وصلة الوصل بين الوعي الذاتي والاعتراف الاجتماعي بحسب Hegel، وجوهر الإنسانية بحسب Marx، ونشاط إرشادي بحسب Kant.

النظرة الاقتصادية

النظرة الفلسفية تُعطينا ربطًا واضحًا بين الفقر والعمل، فكلما زاد هذا الأخير انخفض الفقر والعكس بالعكس. وتالياً يرى الاقتصاديون العمل كعنصر كياني للإنسان (بالطبع هذا ليس حال كل المدارس الاقتصادية) يفرض وجوده في المُجتمعات العصرية.

في القدم كان الإنسان يكفي حاجاته الفسيولوجية من خلال العمل في الطبيعة (الصيد والزراعة)، لكن مع تطوّر الزمن ودخول العنصر الصناعي ومن بعدها التكنولوجي تخلّى قسم كبير من المُجتمع عن العمل مُباشرة مع الطبيعة واتجه إلى العمل في كيانات (مصانع، شركات...). هذا الأمر أدّى إلى تعلق الإنسان بشكل كبير بهذه الكيانات وبعدّة عوامل أصبح معها الدخول إلى جهنم الفقر أسهل بكثير في حال خسر عمله.

هذا التحوّل في العمل هو وصف للرأسمالية حيث إن الإنتاج هو نتاج ثلاثة عوامل: اليد العاملة، رأس المال والتكنولوجيا. وتالياً فإن التكنولوجيا تؤثّر بشكل أو بآخر على اليد العاملة نذكر منها: خسارة العمل أو تغيير طبيعة عمل اليد العاملة حيث إن التكنولوجيا تُقلّل من شقاء العمل ويُصبح هذا الأخير أسهل على عكس ما كان يعيشه الإنسان في العصور القديمة حين كان العمل يتطلّب مجهودًا كبيرًا.

في المقابل، فرضت الرأسمالية انفتاحًا للاقتصادات بعضها على بعض وأصبح الاستيراد من الدوّل الأخرى يُعتبر شيئًا عاديًا مثله مثل أي عمل تجاري داخل البلد. لكن النظرة الرأسمالية تنصّ أيضًا على التخصّص، أي إن البلد الذي يستورد سلعة ما يُنتج في نفس الوقت سلعة أخرى له فيها ميزة تفاضلية. هذه الميزة التفاضلية تكون نتاج عمل يد عاملة محلّية داخل شركة أو مصنع أو مؤسسة وبالتالي هناك حفاظ على العمل في البلد المعني.

لبنان ويده العاملة

ما عرضناه أعلاه يُمكن تلخيصه بالتالي: "العمل مُرتبط بكيان الإنسان، وغياب العمل يؤدّي إلى الفقر في وقت لم يعد العمل مباشرة مع الطبيعة بالسهل (قلّة الأراضي الصالحة للزراعة...). أيضًا هناك ضرورة قصوى في ظل انفتاح الاقتصاد، على تقوية الماكينة الإنتاجية لتشغيل أكبر عدد من اليدّ العاملة اللبنانية".

هذا يعني أن الطبقة السياسية التي تمتلك القرارات الاقتصادية هي المسؤولة عن تأمين العمل للمواطن اللبناني لأن هذا العمل هو حقّ منبعه الكتب السماوية، ولكن أيضًا الأبعاد الإنسانية والأخلاقية التي ميّزت الإنسان عن باقي الحيوانات.

وما مُشكلة لبنان اليوم إلا بماكينته الإنتاجية التي أصبحت غير قادرة على استيعاب اليد العاملة اللبنانية. ففي البدء كانت الأدمغة هي التي تُهاجر لأن الماكينة الاقتصادية اللبنانية لا تمتلك التكنولوجيا الكافية لتشغيل هؤلاء، أمّا اليوم فقد أصبحت اليد العاملة البسيطة أيضًا عرضة للهجرة أو البطالة نتيجة ضعف الماكينة الاقتصادية كما ونتيجة المُضاربة الأجنبية لليد العاملة اللبنانية والتي تحمل مسؤوليتها كاملة الشركات اللبنانية.

من هذا المُنطلق يُمكن القول إن أفضل هدية تُقدّمها السلطة السياسية للمواطن اللبناني هو تأمين عمل مُستدام. وهذا الأمر لا يُمكن أن يحصل ما لم تقوَّ القطاعات الصناعية، التكنولوجية والزراعية وتحصين سوق عمل اليد العاملة اللبنانية. وكنا نتمنّى لو أن البرامج الانتخابية للأحزاب اللبنانية والمرشحين للانتخابات النيابية، تحوي على تعهّدات بالأرقام لعدد الوظائف التي ستخلقها للمواطنين اللبنانيين. إلا أنه من الواضح أن الأداء السياسي لم يصل بعد إلى درجة الأداء السياسي الأميركي الذي يبقى همّه الأول والأخير إيجاد الوظائف للأميركيين مع الشعار الشهير "العمل أولًا".