يقول إيتالو كالفينو في كتابه الرائع “مدن غير مرئية” أن بعض المدن لا تروي ماضيها، ولكنها تحتويه مثل الخطوط على كفِّ اليد…”.

في مواسم الانتخابات، وبيروت من الدوائر التي ستجرى فيها انتخابات، وليس تزكيات (بمعزل عن الزعبرات؟) لا تظهر جماليّةُ التجاعيد وإنما نزفُ التقرُّحات. وفي نظام مناطقي طائفي كنظامنا يرعى “قروية” بيروت أي يجعلها تشبه عصبيات الأرياف سياسيا يتبارى بعض ممثليها بوعي وبلا وعي لتحريك التقرّحات والضغط، الموجع طبعا، عليها.

لا برلينيون في برلين كتب الصحافي البريطاني ميكايل سيمونز في كتابه “برلين- المدينة المنزوعة الملكية” (1988)، مثلما لا قاهريون في القاهرة حتى في قاهرة نجيب محفوظ الأكثر تبلوراً سوسيولوجيا عِبْر سطور “ثلاثية” أجيالها المعاصرة، ولا باريسيون في باريس إلا بمعنى استحقاق المقيم أو المقيمة لنمط حياتها كمدينة عظيمة… هناك بالمقابل الدمشقيون في دمشق الرائعة ولكن الأقل حداثةً من بيروت والبغداديون الأكثر تشتتا في بغداد المنكوبة من صدام حسين بل من عبد الكريم قاسم إلى اليوم، وحين نبتعد… فهناك مراكشيون وفاسيّون “أصفياء”… وليس هناك نيويوركيّون قطعاً في نيويورك عاصمة العالم حتى في حي بروكلين الذي يبدو حين يشدد على الهوية اليهودية أقرب إلى إسرائيل منه إلى أميركا بينما لن يجد مثقفوه من الليبراليين اليهود الشجعان سوى رفض الهوية بهذا المعنى العصبي والتعصّبي.

في هذا الخط من التوصيف الذي يبتعد عن الهوية المناطقية ويقترب من الهوية الحياتية الحداثية كلما ارتفع رقيُّ المدينة “تقع” بيروت (بمعنيي كلمة: تقع) بين المنزلتين من الرقي التربوي والثقافي والفكري … والتخلف السياسي.

الخلاصة: كلما استسلمت المدينة لـ”تجاعيدها” وهي تعتقد أنها تنقذ هويتَها كلما صارت مجرد تجاعيد بلا جسد (مثل بعض نساء التجميل المفتعَل)، وكلما “استوعبت” جسدَها كلما بدت روحُها رائعة.

لم أنتظر حتى تنتهي الانتخابات كي أكتب عن بيروت لأن هذه الانتخابات وبشكل لافت طرحت مسألة مهمة حول بيروت لا تعني “البيروتيّين” وحدهم ولا حتى المقيمين في بيروت.. وحدهم، وإن كان “البيارتة” وبيروت الإدارية مادتَها.

لفت نظري إعلان بعض مرشحي الدائرة الأولى في بيروت، أي المنطقة المسيحية، الأشرفية وامتداداتها، من مواقع سياسية مختلفة مطالبتهم بتأسيس بلدية خاصة بهذه المنطقة مفصولة عن البلدية الحالية. البعض صراحةً والبعض الآخر إيحاءً. إذن تقسيم بيروت إلى بلديتين واحدة ذات أغلبية مسيحية وثانية ذات أغلبية مسلمة ومن الطوائف الثلاث السنية الشيعية الدرزية.

انتخابيا القانون الجديد كرّس هذا التقسيم، أو أعاد التأسيس له، وهو الذي يبدو واقعيا بعد الحرب. فقبل الحرب وضمن التكوين التقليدي لبيروت الغربية كانت هناك أحياء مسيحية كاملة في المزرعة والمصيطبة ومار الياس (الأرثوذكس) والقنطاري والصنائع (الأرمن) ورأس بيروت وجزء من رأس النبع. هذه الأحياء فرغت بكاملها مع الأسف خلال الحرب الأهلية ما عدا أفراد باستثناء محيط الجامعة الأميركية الذي لا زال يحتفظ بنخبة قليلة مختلطة من المسيحيين الجدد والقديمين.

انتهت الحرب وقد أصبحت بيروت السلام عملياً مدينتين في مدينة واحدة. مدينة واحدة سياسيا واثنتين في “الدينوغرافيا” يفصلهما تقسيم واضح يمتد من البحر شمالا إلى الجنوب حتى طريق الشام و حتى مستديرة الطيونة أبعد قليلا إلى الجنوب.

سمعت على التلفزيون بعض المرشحين في الأشرفية يتهمون البلدية بالإهمال الإنمائي لمنطقتهم. ويخلصون من ذلك إلى المطالبة ببلدية خاصة للأشرفية حتى واجهتها البحرية المحاذية شرقا للمرفأ أو لقسمه الشرقي يعني عمليا حدود الدائرة الانتخابية المسماة الأولى. آخرون يبدون أكثر اعتدالاً فيطالبون البلدية إما بالمساواة وإلا الانفصال.

نفَسُ الكلام هو عن البلدية القائمة باعتبارها بلدية مسلمة رغم التمثيل المسيحي في المجلس البلدي ورغم كون العرف السياسي يجعل المحافظ مسيحيا أرثوذكسيا.

هل تتفاعل هذه المسألة بعد الانتخابات وهل تحتمل العلاقات السياسية اللبنانية تفاقمها بما تنطوي عليه من دلالات طائفية على قاعدة الدينوغرافيا؟ وما يرافقها أصلا من أسئلة حول عدالة الاستفادة من عائدات بلدية بيروت التي تملك فوائض مالية بمئات ملايين الدولارات قياسا إلى النسبة التي تدفعها الأشرفية ومحيطها الواسع من الرسوم البلدية؟ ولا يجب أن “تسقط سهواً” مسؤولية البورجوازية المسيحية الحاضرة سياسياً بقوة في الأشرفية عن هذا التفاوت “البلدي” أو عن التطوير الإنمائي الذاتي.

تتكبّد بيروت أحد أثمان الحرب الكبرى وهو الفرز الديموغرافي القسري والإرادي الذي شمل مناطق ومدنا عديدة وطال مسلمين ومسيحيين (وفلسطينيين) في الاتجاهين. في بيروت الطابع الغالب للفرز أصاب المسيحيين ( دون أن ننسى عرب المسلخ المسلمين) وجعل بيروت عمليا كما أشرتُ مدينتين متجاورتين في عاصمة واحدة طبعا تفصلهما طريق الشام.

قمت بجولة في بيروت السبت المنصرم لا سيما في الأحياء الشعبية المتواضعة التي تقع عموما في مهبطها الشرقي المطل على جبل لبنان ويحده نهر بيروت. أحياء (ونهر) هي أيضا تحتاج بشكل كثيف إلى تنمية وتطوير ملحّيْن ليس أقل في غرب بيروت من خندق الغميق والبسطة وأجزاء من المصيطبة وكل طريق الجديدة. هذه أحياء هنا وهناك لا تربطها بوسط بيروت علاقة، أكاد أقول حياتية، قياسا بالتفاوت الهائل بينه وبينها.

لقد هيمنت رؤية وسط بيروت على ربع القرن المنصرم من حياة المدينة – المدينتين ولأسباب معروفة وإن كانت ليست دائما مفهومة. آن الأوان، وهذا ما أعْلَتْ صوتَه مواقفُ مرشحين على الجهتين المسلمة والمسيحية لكي يعاد النظر بالمنحى الذي تأخذه إدارة شؤون بيروت فلا يبدو الفقر في المدينة موزعاً على محميات طائفية وخصوصا سنية شيعية لا تُمس، ولها وظيفتها في حراسة مصالح كبرى. الفقر يحمي الغنى في بيروت! “الأطراف” المهمشة والمعسكرة أي قلوب المدينة السابقة تحمي الوسط. في الجزء المسيحي لا أحياء معسكرة سياسياً تلاصق الوسط فقد انتهت هذه الظاهرة مع نهاية الحرب.(دون أن يعني ذلك غياب السلاح!). ففي لبنان السلاح الأهلي جزء من نمط الحياة. ربما يرى البعض أن صورة بيروت الوطنية والعربية والدولية الوهّاجة لا تحتمل الحديث عن مدينتين في عاصمة واحدة. هذا صحيح، لكن صحته لا تلغي الواقع ولا بد من معالجة “بلدية” ما وجدية له قبل أن يعلو صوته بشكل سلبي أكثر.

لا بد من إعادة إخضاع كيفية إدارة بيروت التنموية لنقاش واسع. وقد تكون هذه إحدى فوائد الانتخابات.

من مكتبي في “النهار” أستطيع أن أشاهد مباشرة الأعمال التنقيبية الدائرة في حفرة واسعة غير واضحة المعالم حتى الآن عَرفتُ أنها تُسمى متحف تاريخ بيروت. الموقع والمشروع جذابان ثقافيا وسياحيا. من المفترض أن التاريخ العريق سيتحول لاحقا إلى مصدر دخل للمدينة. في المدن الحية يسألون دائما: كم تنفق على الأحياء المحتاجة للتنمية لكي تخدم النوعيةُ الثقافيةُ الكميةَ التنموية. أو كما قال لي مرةً رجل أعمال مصري كبير في القاهرة وهو يتحدّث عن أهمية السياحة الثقافية:

دُوْلْ أجْدادْنا ما زالوا بْيِصْرِفوا علينا!

هل سيكون أجدادُنا المتعدّدون كما يظهر من حفريات بيروت أوفياءَ لنا مثل أجداد المصريين لهم!

توت عنخ آمون وعمرو بن العاص “ينفقان” على القاهرة اليوم فهل يفعلها في بيروت جوستينيان وسليمان القانوني؟