ليس من المستبعد ان يبقى الغبار السياسي كثيفا لفترة طويلة نسبياً، بعد انتهاء الانتخابات النيابية. هذا الغبار سيواصل إخفاء حقائق ما أن تتكشّف، حتى يكون السيف قد سبق العزل في موضوع انقاذ الوضعين المالي والاقتصادي.
 

استناداً الى التجارب السابقة، واستناداً الى المعطيات السياسية المتوفرة في الوقت الراهن، يمكن القول ان احتمال ان يستهلك تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات ما تبقى من العام 2018، احتمال منطقي ووارد. ويمكن ان نسترجع للتأكيد، تجربة رئيس الحكومة الاسبق تمام سلام الذي استغرق تشكيل حكومته حوالي عام كامل.

بناء على هذا الواقع، يمكن الاستنتاج ان فترة الستة أشهر المحددة لبدء تنفيذ الاصلاحات التي تعهد بها لبنان امام المجتمع الدولي، وتعهدت بها الحكومة امام شعبها، سيكون صعبا جدا الالتزام بها. اذ أن تشكيل حكومة جديدة تبدأ نشاطها فعليا في مطلع العام 2019، يعني ان الأزمة المالية الضاغطة ستبقى على حالها طوال العام 2018، ومن ثم تبدأ المساعي لمعرفة امكانات تنفيذ خطة انقاذية.

وبصرف النظر عن كل الخطط المطروحة لمسيرة الخروج من النفق، هناك نقطتان حيويتان تشكلان العامود الفقري لأي انقاذ محتمل: الكهرباء وحجم القطاع العام. فهل تستطيع الحكومة المقبلة ان تعالج هذين الملفين على وجه السرعة، وهما مدخل إلزامي لأي عمل إنقاذي على المستويين المالي والاقتصادي؟

في المؤشرات الحالية لا تبدو الامور مشجعة. وما جرى في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة في موضوع الكهرباء، يؤكد ان المشكلة قائمة، وان هناك المزيد من التجاذبات والمطولات التي تنتظر الحكومة المقبلة.

والمؤشر الواضح في هذا التعقيد، هو ان الحكومة قررت العودة الى التفاوض مع شركة J&P Avax اليونانية على أمل اقناعها بانهاء الخلاف القائم بينها وبين الحكومة اللبنانية، والاتفاق معها على انشاء معمل دير عمار-2 وفق نظام الـBOT.

هذا القرار لا يمكن التعاطي معه وكأنه هو الحل. من المعروف ان الشركة اليونانية رفعت دعوى ضد الحكومة اللبنانية تطالب فيها بعطل وضرر قد يصل الى 200 مليون دولار.

وتدرك الشركة ان الحكومة لا تستطيع ان تتجاوزها اذا ارادت ان تعيد تلزيم المعمل. وبالتالي، ستكون الشركة اليونانية في موقف قوة، وفي أحسن الاحوال ستستغرق المفاوضات وقتا طويلا، واذا أثمرت سيكون الاتفاق مجحفا في حق لبنان، لأن المفاوض الآخر يملك كل اوراق القوة للحصول على ما يريده.

وفي موضوع حجم القطاع العام، واحتمال تصغيره هناك 3 خطوات تؤدي الى خفض مستوى الانفاق على هذا القطاع، هي:

اولا – اعادة النظر بقاعدة الرواتب وخفضها لتتلاءم مع اقتصاد البلد، وليس مع حاجات الموظف.

ثانيا – تنفيذ عملية تطهير تؤدي الى خفض عدد العاملين في القطاع العام بين 20و30%.

ثالثا – إصلاح نظام التقاعد، وتوحيده على مستوى القطاع العام، وخفض الانفاق على مستوى الرواتب التقاعدية والتعويضات، بنسبة لا تقل عن 50%.
في الاستنتاج، قد تكون مسألة معالجة الكهرباء أقل تعقيدا بكثير من ملف القطاع العام. هذا الملف حساس وتصعب مقاربته، في الدول المتحضرة وفي الدول المتخلفة في آن. اذ ان اصلاح نظام التقديمات الاجتماعية، وتقليص التوظيف، وخفض الرواتب، كلها من المحرمات بالنسبة الى الشعوب.

وما تشهده نيكاراغوا اليوم، نموذج آخر لمخاطر مقاربة ملف تغيير النظام الاجتماعي. وقد سقط حتى الان 27 قتيلا، والأزمة لم تنته. واذا كانت كلمة أطلقها رئيس حكومة لبناني سابق قبل سنوات امام موظفي القطاع العام، تفاعلت مع السنوات، وانتهت الى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، رغم كل المخاطر، وبسبب ضغط الشارع، فهل يمكن أن نتوقّع وجود قدرة لدى أي حكومة للمسّ بأي «مكسب» قائم لدى موظف القطاع العام؟ مع العلم، ان هذا الموظف لا يستطيع أن يقتنع بمبدأ التضحية والتكافل، لأنه يرى ويلمس ان نهب المال العام على مستوى القيادات قائم على قدم وساق، فكيف يمكن ان يوافق على التضحية، ومن حقه أن يتساءل اذا ما كان يُطلب منه التضحية من اجل السماح للسارقين بمواصلة سرقة المال العام؟

في المحصلة، البلد مقبل على دوامة، والمسؤولون يدركون ذلك، لكنهم يواصلون شراء الوقت على أمل حصول معجزة ما. وفي هذا المجال، يمكن القول انهم فعلاً أصحاب ايمان وتقوى، ما داموا في انتظار عجيبة إلهية تُنقذ الوضع وتنقذهم.