أسبوع يفصلنا عن الاستحقاق النيابي، وسط غليان النفوس والتهافت على شراء الأصوات وتراشُق الاتّهامات، يجلس رئيس أساقفة بيروت المارونية بولس مطر في مكتبه في الطابق الرابع في أبرشية بيروت المارونية في الأشرفية، ولا تبدو الفرحة مكتملةً في عينيه، فإذا نظرَ إلى الجزء الملآن من الكوب ابتسَم، قائلاً: «نحمد الله أنّنا مقبلون على الانتخابات النيابية بعد سنوات من الانتظار»، وإذا نظر إلى الجزء الفارغ من الكوب، غابَ الامتنانُ عن ملامح وجهِه، مردّداً: «ما نعيشه غيرُ منطقي، مجرّد تسويات آنيّة لضمان الوصول»، مؤكّداً «أنّ إلغاءَ الآخر مبدأ مرفوض تماماً».
 

الأيقونات عن يمينه وعَلم لبنان عن شماله، بهدوئه المعهود يُتابع راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس مطر تفاصيلَ رعيتِه بأفراحها وأحزانها، فيما صلاتُه جامعة «على نيّة كلّ اللبنانيين المقيمين والمغتربين»، وفق ما عبّر عنه في حديث لـ«الجمهورية».

تسويات آنيّة

يولي مطر أهمّيةً كبيرة للاستحقاق النيابي المقبل عليه لبنان، ولكن في حساباته أنّ الأهمّ: «بعد تمرير الاستحقاق النيابي، التوجّه متى توافرَت الإمكانيات للبحث لتعديله، نظراً إلى أنه بدأت تتكشّف معالمُ شوائبِه، وأنه حتى الآن ليس الأفضلَ لجهة تشكيل اللوائح». وتابع موضحاً: «يفترض القانون النسبي أن تتشكّل اللوائح من حزبٍ واحد، ولكن في لبنان ضمن الـ 15 دائرة يختلف تعاطي الأحزاب فيما بينها بحسب ظروفها وحساباتها، فما نراه مجرّد تسويات آنيّة لضمان الوصول، وهذا ما يُعيق عملية تطوير الأفكار وتنفيذ المشاريع في ما بعد»، مشيراً إلى أنّ «الصوت التفضيلي حوَّل مرشّحي اللائحة الواحدة إلى أخصام في ما بينهم».

الإلغاء مبدأ مرفوض

ولا يَعتبر مطر أنّ تنافس 77 لائحة «مؤشّر صحّي لوجود الديموقراطية»، منتقداً الآليّة التي رافقت عملية تشكيل اللوائح، قائلاً: «تُفرَض لوائح على المواطنين لا رأيَ لهم فيها ولم تُشكّل على أساس حزبي، ولا على أساس برنامج أو مشروع متكامل يَجمع أعضاءَها». وأضاف: «لا شكّ في أنّ مبدأ الانتخابات محكوم برابحٍ وخاسر، ولكنّ البعض تعمَّد إلغاءَ الآخَر، فهذا مبدأ مرفوض تماماً». وأسفَ مطر «لتحوُّلِ لبنان تدريجاً إلى بلد التسويات، فكِل «مين طِلع ع بالو ترشّح»، من يُحاسب من؟». وأضاف: «النوّاب الجُدد غير معروفين، وحتى بعض النوّاب الحاليين لم نشعر بمرورهم في الندوة البرلمانية».

أين البرامج الانتخابية؟

«سيّدنا» ليس ملِمّاً في شؤون أبرشيته فقط، إنّما في شجون أبناء الوطن برُمّتهم، فيخرج عن هدوئه وفي صوته وجعُ المواطنين، سائلاً: «هل مِن بين المرشحين مَن وجَد حلاً لمسألة النفايات؟ هل مَن أزاحَ عن كاهل الأهالي عبءَ الأقساط؟ هل من فكَّر في الدين العام؟ ماذا عن الكهرباء التي تلعب بأعصاب المواطنين؟ هل من فكّرَ بهم ضِمن البرامج الانتخابية؟ نتلمّس إصراراً على الوصول إلى السلطة بأيّ وسيلة والاستحواذِ على أكبر عددٍ مِن النواب للمضيّ قدُماً في السيطرة على الوضع، من دون أفكار وبرامج فعلية ومشاريع للوطن».

وينتقد مطر «هجمة المرشّحين»، قائلاً: «لا شكّ في أنّ الترشيح حرّ، ولكنّ الناس في حاجة لمعرفة إلى أين سيقودهم هؤلاء المرشّحون، فالمجلس النيابي في الأساس دورُه التشريع، ومِن بين 128 نائباً أغلبُهم باتوا رجالَ أعمال، قلّةٌ أطبّاءُ ومحامون، ومشرّعون، «بالكاد نجد 10 أو 15 شخصاً يفهمون بالتشريع، معقول !». وتابع مستطرداً: «فلنُحصِ كم نائباً أصدر كتاباً أو أعدَّ دراسةً اقتصادية أو رَسم استراتيجية للمنطقة. إذا كانوا غيرَ مستعدّين للمسؤولية المقبلين عليها، «لوَين جايين؟»...».

هذا الكعك من ذاك العجين!

سرعان ما يتّسع بؤبؤا «سيّدنا» استغراباً من عملية بيعِ الأصوات وشرائها تزامُناً مع احتدام المعارك الانتخابية، فيقول: «أتعجّب لوجود أشخاص إلى هذا الحد يمكن شراؤهم، وكيف هناك من يشترون؟ هذا مؤسف، في بلدان العالم لا نصادفه، فالديموقراطية في الخارج تختلف عمّا نُعاصره في لبنان». ويضيف: «نحن لا نريد أن نَلعنَ الظلام بل أن نضيء شمعةً، ولكن لا شيء يبرّر عملية شراء الأصوات. وكلّ من باع صوتَه، فليسأل نفسَه هل حُلّت مشكلتُه؟».

ويتابع مطر مستذكراً ما تعلّمه من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير: «تعلّمنا منه عبارة «من اشتراكَ باعك»، أي كلّ مَن يشتري أصوات الناخبين اليوم بـ 200 أو 500 دولار سيبيعها بأرخص، وبيعُ الأصوات يعكس ذروةَ التخلف والمرض لدى أصحاب الإرادة الضعيفة». ويضيف: «لا يبِع أحدٌ ضميرَه، على كلّ مواطن أن يسجّل موقفاً، تذكّروا أنّ هذا الكعك من ذاك العجين، فمن يحاول شراء صوتك لا يملك إرادة التغيير وستبقى تعيش بسببه في دوّامة مفرَغة».

«رؤوس مِش لازم تسقط!»

لا يرى مطر أنّ المعارك الانتخابية تتركّز في الأقضية أو المناطق المسيحية فقط، فيقول: «المعارك الانتخابية على الجهات كافة، على سبيل المثال، لدى إخواننا السُنّة صراع في الشمال، في طرابلس، وبيروت الثانية، وصراع في عكّار، والبقاع الغربي، وصيدا، وعلى المستوى الدرزي وغيرهم». وأضاف: «ربّما المعارك تأخذ طابعاً آخَر لدى المسيحيين لأنّهم اعتادوا على الحرّيات وعلى غياب الأحادية المسيحية، ولكن للأسف يمارسون أكثرَ مِن اللزوم «تكسيرَ بعضهم البعض»، وهناك خوفٌ من سقوط رؤوسٍ مِش لازم تسقط ووصولِ أشخاص «منُن خَرج».

ويتوجّه مطر إلى كلّ مسيحي بالقول: «لا تُرتَهنوا لأحد، فالمسيحي رَجل وحدة وتوحيد. للأسف أنّ المسيحيين يُضحّون في قضايا كبيرة فقط لمجرّد ضمانِ وصولهم، لذا أتمنّى عليهم أن يكونوا مِقدامين، ولا معنى لإلغاء الآخر. فالأب العظيم ميشال حايك كان يقول لنا: «الغالب اليوم هو المغلوب غداً»، لذا إعملوا على أسسٍ، على برامج، وليس من منطلق الغالب والمغلوب أو «طاحِن ومطحون، الدِني مِش هيك بتكون»، الديمقراطية أكثرية رأي وليست أكثرية طوائف». داعياً الجميعَ إلى الاقتراع: «التصويت واجب، حتى لو وضَع المرء ورقةً بيضاء، لا بدّ مِن تسجيلِ فِعلِ حضور، بوسعِه الاعتراضُ على أشخاص، ولكنْ مِن غير المنطق أن يُلازمَ منزله ويغفلَ عن مسؤوليته تجاه وطنِه».

وللمرشّحين يتوجّه مطر بالقول: «مَن يَعجز عن خدمة وطنِه وأبنائه «شو جايي يعمِل؟»، لبنان رسالة حوار ومنارة للشرق، المتطرّفون الذين لا يقبَلون أيَّ لقاء مع الآخر «شو جايين يَعملو؟»». وأضاف: «سبقَ وقال البابا يوحنا بولس الثاني: لبنان رسالة؛ فمن سيحمل هذه الرسالة؟ شعب لبنان برُمّتِه بمسؤوليه ووساكِنيه».

عودوا إلى الديمقراطية

وبعيداً من المعارك الانتخابية وضراوتِها، وحيالَ ما تشهده المنطقة من معارك، يرى مطر أنّ «المصيبة الأكبر هي في الصراع السنّي الشيعي في المنطقة، والذي يكاد يَطغي على ثروات العرب والمسلمين ضدّ بعضهم، ويتيحُ للدول الكبرى أن تستفيد مِن الوضع لتبيعَ السلاح، سواءٌ روسيا، أو أميركا أو أوروبا، هذا عوَضاً عن محاولة إرساء مبدأ الصلح بين الناس». لذا دعا اللبنانيين لينظروا «إلى ميزةِ بلدِهم التي تضمّ السنّي والشيعي والمسيحي، ويحافظوا على وطنِهم وقيَمه وحرّياته وديمقراطيته، من دون الارتهان لأيّ قوى، بل أن يتّحدوا ليؤثّروا في منطقتهم».