أيّ متابعةٍ لمواقف الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله وقيادات الحزب تُظهر وكأنّ الحزبَ يحاول التمسكنَ للتمكّن. فهل هذا الانطباعُ في محلّه، وكيف؟ وماذا بعد الانتخابات؟
 

خصّص السيّد نصرالله إطلالاتٍ عدة للانتخابات النيابية، وكلّ مرّة في دائرة من الدوائر بغية تحفيزِ الناس على الاقتراع للوائح «حزب الله» وحركة «أمل»، والمشترَك بين كلّ إطلالاته تقريباً نبرتُه الهادئة ومضمونُه التبريدي وابتعاده قدر الإمكان عن الملفات الخارجية والخلافية وتجنّبُه الدخولَ في مواجهات ساخنة، وذلك على رغم أنّ التصعيد الإسرائيلي-الإيراني وصَل إلى ذروته، والاشتباكَ الإقليمي يتطوّر فصولاً مع الاقتراب من الموعد المحتمل لتعليق واشنطن مشاركتَها في الاتفاق النووي وتداعيات خطوةٍ من هذا النوع على مستوى المنطقة.

وفي موازاة الخطاب الهادئ والليِّن يمكن التوقّف أمام ثلاث محطات أساسية:

المحطة الأولى نفيُ «حزب الله» أن يكون في وارد السعي إلى الثلثِ زائداً واحداً، أي ما فوق الـ 43 نائباً، وهذا النفي جاء قاطعاً على لسان الأمين العام ونائبه وقيادات أخرى، علماً أنّ هذا الهدفَ تمّ الكشفُ عنه في الزميلة «الأخبار» وفي مقالة لعضو مجلس التحرير الزميل حسن علّيق، وبالتالي لم تكن مجرّدَ تسريبة في صحيفة خصمة للحزب، إنّما من الواضح أنّ الكشفَ عن هذا الهدف حصَل عن طريق الخطأ وسوءِ التقدير، ما استدعى استنفاراً لنفي أن يكون الحزب في وارد السعي إلى الثلث أو النصف أو الثلثين.

وأما مردّ النفي خشية «حزب الله» من أن يشكّل هدفاً من هذا النوع تعبئةً قصوى ضده تؤدّي إلى إفقاده القدرة على انتخاب العدد الذي يسعى إليه، لأنّ التعبئة المقابلة لا تناسب الهدفَ الموضوع مِن قبله، وهو الوصول إلى أوسع عدد ممكن من النواب، وبالتالي يريد تمريرَ الانتخابات وفي 7 أيار يوم آخر.

كما قد يكون من أسباب النفي خشية «حزب الله» الفعلية من ألّا يتمكّن من تحقيق «هدفه الثمين» ببلوغ الـ43 نائباً، فيخرج من الانتخابات بخسارة محقّقة على رغم تمكّنه من أن يحصدَ كتلةَ أكبرَ من كتلته الحالية، ولكنّ الرأيَ العام يحاسب على الأهداف المعلنة والموضوعة.

المحطة الثانية تتمثل في إعلان «حزب الله» عن وثيقةٍ اقتصاديةٍ تُعتبر الأولى من نوعها في تاريخ الحزب، وبمعزل عن كل التفسيرات التي أُعطيت وركّزت على الجانب المتصل بحاجة الحزب لاسترضاء بيئته التي تسجِّل عليه تقصيرَه وعدمَ اهتمامه بالجوانب الإنمائية والاقتصادية والمالية، وبالتالي وضع الوثيقة في الإطار الانتخابي البحت، فيما لا يمكن إنكارُ أنه أراد توجيهَ رسالة تتجاوز الانتخابات بأنّ اهتمامَه لا يقتصر على الشقّ العسكري القتالي، بل هو معنيٌّ في وضع البلد الاقتصادي، وأنّ مرحلة ما بعد الانتخابات ستشهد انخراطاً من الحزب في هذا الاتّجاه والتوجّه.

وبمعزل عن صدقيّة توجّه الحزب أو عدمه، إذ لا يجوز الحكم على النيات، ولكن، معلومٌ أنّ دور «حزب الله» يكبر ويتوسّع بقدر ما ينحصر دورُ الدولة وينكفئ، والعكس صحيح، وبالتالي في اللحظة التي تشعر فيها بيئةُ الحزب أنّ حاجتَها إليه انتفت مع توفير الدولة مستلزماتها الحياتية و»الوجودية» ينكفئ تلقائياً دورُ الحزب لمصلحة دور الدولة.

المحطةُ الثالثة تجاوبُه السريع مع الدعوة المحتمَلة لبحث الاستراتيجية الدفاعية للبنان والصادرة عن الرئيس عون، علماً أنّ هذه الدعوة جاءت بطلب دولي أيضاً من خلال مناشدة البيان الختامي لمؤتمر روما-2 المخصّص لدعم القوى العسكرية والأمنية اللبنانية «جميع الأحزاب اللبنانية استئناف النقاش حول استراتيجية الدفاع الوطني مرحّباً بالبيان الصادر في 12 آذار عن رئيس الجمهورية ميشال عون»، فيما كان أكد هذا البيان بالذات على حصرية السلاح بيد الدولة وحصرية الدفاع عن الحدود بيد الجيش اللبناني.

وبمعزل عن توجّه «حزب الله» لعدم تسليم سلاحه، إلّا أنّ مبدأ الاستراتيجية الدفاعية الذي طُرح على قاعدة تعليق تنفيذ القرار 1559 عبر إحالة الموضوع إلى حوار لبناني-لبناني الهدف النهائي منه تسليم الحزب سلاحَه للدولة، والأمر لم يتبدّل منذ لحظة صدور القرار 1559 مروراً بالقرار 1701 وصولاً إلى مؤتمر روما-2.

فالهدف الأساس من بحث الاستراتيجية الدفاعية، وبمعزل عن مؤدّياتها، وضعُ القرار الاستراتيجي المتصل بالحرب والسلم بيد الدولة وتسليم «حزب الله» سلاحه للدولة، وبالتالي الحزب يدرك جيداً الهدفَ من بحث هذه الاستراتيجية، وعلى رغم ذلك أبدى كل تجاوبه في خطوة إيجابية وانفتاحية وفي مرحلةٍ تختلف عن سابقاتها في ظلّ إدارة أميركية وضعت في سلّم أولويّاتها تحجيمَ الدور والنفوذ الإيراني.

وعليه، لم يسبق أن تعامل «حزب الله» بإيجابية من هذا النوع: ليونة في المواقف، حرص على التهدئة، تمسُّك بالتبريد السياسي، تجنّب المسائل الخلافية، الابتعاد عن التهجّمات الاستفزازية، الكلام عن الشراكة والمشاركة والحوار والتوافق، رفض منطق الغلبة والأكثريات والأقليات، الإيحاء بأولويّة الإنماء والاقتصاد، وإبداء الاستعداد لبحث مصير سلاحه مجدّداً...

ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل إيجابية «حزب الله» هدفها التمسكن قبل الانتخابات تجنّباً لاستنفار الرأي العام ضده على غرار ما حصل في استحقاق 2009، من أجل التمكّن من خلال نتائج الانتخابات التي تُعتبر في هذه المرحلة الهدفَ الرئيس والأساس الذي يجب العمل عليه، أم أنّ هناك تحوّلاً بطيئاً في سياسة الحزب الاستراتيجية؟

فلقد أظهرت الأحداث منذ العام 2005 إلى اليوم أنّ «حزب الله» براغماتي إلى أقصى الحدود، حيث إنّ تسخينَ الجوّ السياسي أو تبريده يرتبط بمصلحته الاستراتيجية التي إذا قضت التسخين يسخِّن، وإذا اقتضت التبريد يبرِّد، ولكن من دون أيّ تغيير أو تحوّل في تلك الاستراتيجية، وأيُّ رهان على تحوّلٍ من هذا النوع ليس في محلّه، فيما قد يكون، ونشدّد على قد، وصل إلى قناعة أنّ شطبَ قسم من اللبنانيين بالقوة غيرُ وارد، وأنّ وضعَ اليد على لبنان بالقوة غيرُ ممكن، وبالتالي يحاول التعايش بين فكرة الاحتفاظ بسلاحه ودوره، وبين القضم التدريجي لقرار الدولة.

وقد يكون يرمي من خلال الليونة الفائقة إلى التمسكن للتمكّن في الانتخابات وتحصيل أكبر عدد ممكن من المقاعد فقط لا غير والتي يصعب صرفُها بـ»حزبلة الدولة»، حيث إنّ هناك قاعدة مثلّثة لا يمكن تجاوزُها:

القاعدة الأولى، لبنان يُحكم بالتوافق بين الجماعات المكوِّنة لنظامه السياسي، وبالتالي لا أكثرية ولا أقلّية تستطيع تغييرَ هذا المعطى، ولا توافقَ حول السلاح لدى الشرائح الأكبر مسيحياً وسنّياً ودرزياً.

القاعدة الثانية، القضم التدريجي لقرار الدولة مستحيل، وما لم يحصل منذ العام 2005 إلى اليوم، لن يحصل في المستقبل حيث الاتّجاه هو إلى قضم مشروع «حزب الله» بفعل عوامل داخلية وخارجية، وكل ما يُثار في هذا الإطار لا يتجاوز التخويف.

القاعدة الثالثة، تشريع السلاح غير ممكن لاعتبارات داخلية وخارجية، وما ينطبق على العراق لا يصحّ في لبنان، وأقصى ما يمكن أن يصلَ إليه الحزب يندرج في ما هو قائم اليوم، فيما التحدّي الأساس أمام القوى السيادية أن تقوم بالدور المطلوب منها لجهة مواصلة التمسّك بمشروع الدولة والعمل الحثيث في هذا الاتّجاه، وعدم الخوف من السلاح ولا السماح بتحويل لبنان إلى ساحة أو إضعاف هذا مشروع الدولة تحت أيّ عنوان أو ترهيب.