سَلَّمَت أمي من صلاة الظهر والتفتت إلى نباتاتها تملأ عينيها منها. من حبها اتخذت مُصَلّى قربَها في الطبقة العلوية. يقال إن الآسيويين وحدَهم يتحدثون مع النبات. كذبوا. لقد رأيتُ أمي منذ صغري تحدث شتائلها في بيتنا العتيق. تعتذر لها وهي تشذّبها وتمسح عليها كأنها شعرُ يتيم. تسقي الأصصَ المثبتة على الدرابزين، ترش ما تدلى منها حتى تبتلَّ باحةُ بيتنا، فيكلفني ذلك كنسًا وكشطاً يومياً بالماء. طوت السجادة وقامتْ تطل من فوق. راقها شلالُ الخُضرة الذي يضطر الداخل إلى بيتنا أحياناً أن يطأطئ رأسَه كيلا يمس شعرُه تلك شعورَ الوارفة ..  

كنا ننتظر أبي لوجبة الغداء. كأنها أحست باقترابه. ما إن نادتني أن أوقِد على الطاجين ليَدفأ، حتى نادى أبي من العتبة "أتريدون ضيوفاً"؟ التفتُّ لأراه رفقة خالتي رقية. طِرتُ إليها لأعانقها، وحملت عنها رُزمةً في يدها. المسكينة ترمّلت باكراً وكانت أفقرَ أخواتِها.. كان أبي قد لقيها في طريقها إلى بيت ابنتها في حي خارج سور المدينة، مشياً على الأقدام كعادتها. ألحَّ عليها أن تتغدّى عندنا ثم تكمل المسير، ريثما تميلُ الشمسُ وتخفُّ وطأتها عن الطريق الطويلة المكشوفة العارية من كل بناء. قبلت ولولا إلحاحُه.. وكانت من أنفتها لا تقبل دعوةً إلا بتمزيق التلابيب. لكنها كانت تزورنا أحياناً من تلقاء نفسها في غير وقتِ طعام ولا تطيل المُكث. حين رأتها أمي تهللت أساريرها ورددت إلى ما لا نهاية "يا فرحي يا سعدي.." سارعَتْ خالتي إلى الجلوس وقد انقطع نفسُها من طول المشي، ثم رفعت رأسها من النافورة إلى النبات الوارف المتدلي من أعلى وقالت لأمي منتعشة مندهشة: "الله.. يَا بْنْتْ بُويَا وْمِّي.. كم هو جميل.. كأنكم في بستان".. تبسمتْ أمي وطفقت تكمل تهيئة المائدة وتركَتْها غارقة في اندهاشها..

أمسكتُ جريدَ النخل وكنستُ فتات جِصٍّ اقتلعه مِقود دراجة أخي من الجدار وبعضَ أوراقٍ تساقطت قبل أن تنتبه أمي. لا تطيق شيئاً فوق الزليج الأبيض. عليه أن يبقى ناصعاً وخاصة إن حضر زائر. كنت في حالة استنفار. في لحظة رفعتُ الجريدَ بشكل عمودي فإذا به يلمس شيئاً معلقاً على الجدار فتحرك كأنه كائن حي. آه تذكرتُ العقرب. التفتُّ إلى خالتي وكنت أظنها تتبع حركاتي. وجدتها ذاهلة في الخضرة لا تزال ". - انظري خالتي إلى العقرب، منذ خمسة أشهر علقتُها هنا بيدي وما زالت حية"؟ سألتني عن سر ذلك. أخبرتها أن جارَتَنا السّْلَامِيَّة كان لها اعتقادٌ موروث أنك حين تعلق عقرباً من شولتها تصير لك حاسةٌ لرصد أي عقرب تتسلل إلى البيت، فلا تفاجئك بلسعة. صدقناها مكرهين. عانينا من دخول العقارب إذ كنا جيران الفرن وكانت شحنات الخشب والحطب مرتعاً لها. الغريب أنني صرت فعلاً أرى العقارب كلما دخلت البيت..

تعجبَتْ خالتي من ذلك وهي تنظر إلى العقرب كلما لمسْتها بطرف الجريد تستنفر شَوْلتُها وتحركُ مخالبَها لتقبض على شيء ما. ثم يذهب خوفها فتسترخي وتعودُ لسكونها المشنوق..

بعد الغداء استسلمت خالتي رقية للقيلولة ثم أفاقت على خرير شاي يُصبُّ ويُعاد. أمدَّتها أمي بكأس منعنع، وترجَّتها: "اقضِ عندنا الليلة يا بْنْتْ بُويَا وْمِّي.."، اعتذرت. الكل يجهل مكانها الآن. لكنَّ أمي وعدتها أن ترسل من يخبر عنها. حين حاصرها الإلحاح قامت فوراً لتكملَ سيرها وتقطع التردد. خرجَت تشيعها أمي وتربِّتُ على كتفها قائلة: "ما تمشي غير فين مْشَّاكْ الله يا بنت بويا".

وضعت نقابها وانطلقت.

اقتفيت أثرها قليلاً. وعند ملتقى دربين لقيَتْ جارتَنا لَلَّا حَادَّة. كانت صديقتَها الحميمة قبل أن تتزوج وتروح مِن بيتنا، إذ كانت خالتي الصغرى وعاشت معنا وكان أبي وليَّ زواجها، فتفرقت بهما السبل. تنحَّيَتا جانباً وأخذت لَلا حادَّة تعاتِبها أن مرت ببابها ولم تطرقه. معتذرةً، حكت لها خالتي كلَّ ما جرى وكيف وجدَتْ نفسَها في بيتنا، وحكت عن النباتات والخضرة وحتى عن العقرب المعلقة الحية منذ شهور دونَ قوت..

كانت للا حادة لا تستلطف أمي كثيراً. أمي صارمة وتنصح القريب والبعيد وتنصح بناتِ الجيران كأنهن منا وكأننا منهن في الخلوة أو أمام الملأ. لكن للا حادة تكره من يقول شيئاً لهن. تحسب ذلك طعناً في تربيتها لا عوناً لها عليهن. قالت لخالتي وهي تحرك رأسها: " سِيرِي.. سِيرِي .. ما فهمتي والو .." وقالت كلاما تشربته خالتي في صمت كالإسفنجة وافترقتا. ذهبت خالتي إلى بيتها عليها حزن ممزوج بغضب ..

**

استدار العام وماتت العقرب. ربما. لا أذكر. وحز في نفس أمي أن خالتي لم تزرنا مِن يومِها. مراراً زرناها في بيتها ولا نجدها. وكانت أمي تحس أنها في البيت كامنة متخفية ترفض لقاءها.. حتى صادفتها ضُحَى يومٍ في طريق السوق وناشدتها أن تأتي البيت لأجل كوب شاي. رفضت لكن أمي ناشدتها الرحم والثدي الذي رشفتاه. فلم تجد بُداً أن تدخل..

لم تضع جلبابها، ونقابَها فقط حجزتْهُ تحت ذقنها مستعدةً لإعادته فورا والانصراف. اغرورقت عيناها وقالت لأمي وأنا أنظر إليهما: "إيه يا بنت بويا ومِّي يا الكافْرَة بالله. أمرتِ ابنتَكِ يومها أن تريني العقرب كيلا أصيب النباتَ والبيتَ بالعين".

عَهِدتُ أمي عاقلة ثابتة راشدة منذ وعيت، إلا ذلك اليوم. هبَّت من مجلسها كأنما لسعتها ألف عقرب وشهقت شهقة ونزعت خمارها وارتمت أرضا كجمل أهوج لم ينل منه النحر. لطمت خدودها تدعو بالموت والثبور إن خطر لها من ذلك شيء. وأغمي عليها وهرعنا نرش عليها الماء ونتباكى. ثم أفاقت على نحيب خالتي بقربها. تعانقتا. وبكتا بكاءَ طفلتين تجدد يُتمُهُما. ثم افترقتا لا تنظران في عيني بعضِهما..

لكن منذئذ ثقلت أقدامُ خالتي رقية عن بيتنا حتى ماتت. رافقها إحساس دفين بالخجل والعار لأنها صدَّقَتْ غريبةً في أختِها الكبرى بنتِ أبيها وأمها.

(رضا نازه - المغرب)