الطيّب صالح، الأديب السوداني الذي لخّص مشاعر غربةٍ لطالما صَدح قلمُه بها، يفاجئنا في رواية «ضوّ البيت»، الصادرة عن «دار الجيل»، بأسلوبه العبثي في تسيير الأحداث وتثبيتِها على هياكل مزعزعة من المفاجآت غير المتّصلة.
 

تدور أحداث الرواية في قرية «ود حامد» حيث يتصارع جيل الماضي مع جيل الشباب الواعد على الهيمنة على سلطة الجمعية العمومية للقرية، وحيث الدم الحارّ الذي يفور من أجساد جيلٍ جديد يريد التغيير الشامل والتحرّر مِن الاستحواذ الأعمى القديم على الحُكم، فينجح أولاد البكري في انتزاعه من محجوب وتحجيمه وإعادته فلّاحاً بسيطاً.

ولكنّ أولاد البكري يثبتون عدم أهليتِهم للحكم، فتؤول ثورتهم إلى سقوطٍ مدوٍّ، كما يحدث في أيامنا في ثورات الوطن العربي التي انتهى معظمها إلى الفوضى والتشتّت، فافتقدت التصويب القويم للدرب السليم. وهذا التماس الوحيد الذي نلمحه في الرواية.

تشتُّت الحدث

لا تلبث الفوضى أن تدبَّ في مفاصلَ هامةٍ من الرواية، فيتشتّت الحدث، وينطلق كلّ بطل على سجيّته يروي ويُخبر في سردٍ باللهجة السودانية المحكيّة، التي لا نَفقهُ الكثيرَ منها، ولا يوجد تفسيرٌ لها في أسفل الصفحات، كما يَحدث عادةً، وكأنّ فهمها أمرٌ محتومٌ علينا، ولا تلبث وجوه أخرى أن تطلَّ من دون ترتيبِِ ولا تصنيف، كوجهِ بندرشاه ،ببشرتِه السوداء وعينيه الخضراوين، الذي يَرمز ربّما إلى التاريخ الجميل، ثمّ ظهور الغريق في آخِر الرواية، الذي يأتي من المجهول وينبثق كاللجج الثائرة من البحر، فيحتضنه أهل القرية ويشهر إسلامَه في جوّ أسطوريّ بديع، ويتزوّج فتاةً من أهلها، ثمّ لا يلبث أن يقضيَ غرَقاً بعد سنوات من الكدّ والكفاح فيها، ويبقى من ذكراه طفلُه الصغير الذي خلّفَه وراءه وزوجةٌ ترثيه وتبكيه.

نلمح أنّ الرؤيةَ الداخلية الذاتية لمخيّلة الكاتب مفقودةٌ بشكل معدَم في أوصال الأحداث، والصبغةَ السردية متفكّكة، وضميرَ الغائب والمتكلم يَظهران ويختفيان كلمح البصر دون مقدّمات أو تمهيد للقارئ. فتفقد الحبكة توازنَها، ويجازف بها الرواي إلى أقصى حدّ، فتُنهكه النهاية وتعييه، ويَخسر رهان المفاجأة.

هوس خطابي

يبتعد الكاتب كلَّ البعدِ عن المحاور الرومانسية في السرد، وهذا حقٌّ مجازٌ له، ولكنّ التقنيات التعبيرية محصورة بالحوار الشعبي والتعليقات العابرة، دون إبراز المشكلة بتدرّجٍ وفطنةٍ وابتكار، فلا يقدر على لمِّ شعثِ الانفلات الظاهر من المفارق الرئيسية في سير المستجدّات الذاتية والسياسية والاجتماعية أو حتى الفردية، فيقع في مطبّ الهوَس الخطابي، وعدمِ انضباط الأصوات المتكلمة، وتتمايل الحياة التي تدبّ فيها الفوضى في الرواية إلى حالةِ انعدام التوازن الفكري والحدثي.

الأرضيةُ الوصفية للرواية معتِمة وتكاد تكون مقفرة، الجماد يسيطر على الفكر ويدفع القارئ للتساؤل عن هدفِ صالح في تغييب العناصر الوصفية الفنّية والمجازات والتشبيهات، وتكثيف الخطابات، والتركيز على الأحلام وعنصر الهلوَسة فيها.

فالراوية تنتحبُ بالشجن والحزن والغضب والثورة اليائسة منذ البداية وحتى النهاية، والترابط بين الحدث والآخر منحسر بشكلٍ واضح، وعنصر المفاجأة يَمكث في بعدٍ سكونيّ قاحل، فلا الزمن يشبه نفسَه ولا الشخوص حتى.

تماسكٌ واهٍ

الإسقاطات السياسية بالكاد تشقّ طريقَها في لبّ الحبكة التي تلهث أنفاسَها مستميتة للّحاقِ برَكبِ الأحداث، العقدةُ لا تبرز إلّا لماماً، لأنّ الحلّ موجود دائماً، ولا يلبث أن يختفي لبروز عقدةٍ أخرى في توتّرٍ نفسي متصاعد، وهكذا دواليك.

التماسك في بنيان رواية «ضوّ البيت» واهٍ جداً، ونلاحظ بأنّ الخلل في القواعد اللغوية في بعض الجُمل واضحٌ، والطيّب صالح لم يُجلجِل بصوتٍ جهوري ناقداً ومبرزاً للضعف البشري كما عوّدنا في الكثير من رواياته بإتقانٍ مبدع، بل تمرَّغ في سديم حليبي واهٍ في سماءٍ ممطرة بالقلق لا بالحِبر كما يتوجّب على سماء المبدع أن تمطر.

فكما قال الأديب فيكتور هوغو: «القلم هو مرآة القلب وترجمان العقل»، ولا شكّ في أنّ الطيّب صالح مبدعٌ سوداني مهمّ، قدَّس قلمه ولكنّه غفلَ عن ترجمة صوت العقل وعجزَ عن عزفِ حنين القلب في روايته «ضوّ البيت».

(نسرين بلوط)