إن أهمية مؤتمر سيدر 1 الإقتصادية لا يُمكن نكرانها، لكن ماذا بعد هذا المؤتمر؟ سؤال بدأ المواطن بطرحه ويتوجّب على القوى السياسية طرح مشروعها قبل الإنتخابات النيابية. هل هذا المؤتمر وحده كفيل بإخراج لبنان من مأزقه؟ بالطبع البحث عن نمو إقتصادي مُستدام يفرض البحث في السياسة الإقتصادية.
 

أحد عشر مليار دولار أميركي حصيلة مؤتمر «سيدر-1». رقم يهتزّ له الإقتصاد اللبناني وهو المحروم من الإستثمارات منذ إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2011 حيث قامت دول الخليج بسحب إستثماراتها من لبنان ومنعت رعاياها من القدوم إلى البلد، إن بهدف الأعمال أو بهدف السياحة. بالطبع، النتيجة كانت مُدوّية حيث هبط النمو الإقتصادي من 10% في العام 2009 إلى أقلّ من 2% في العام 2011.

لكن الحقّ يُقال أن فترة النمو الإقتصادي التي عاشها لبنان منذ العام 2006 حتى العام 2010، لم تستفد منها الماكينة الإقتصادية ولا المالية العامّة. على الصعيد الإقتصادي، تركزّت الاستثمارات على قطاعين أساسيين: العقاري والخدمات، وبالتالي فإن مُعظم الوظائف التي تمّ خلقها في هذين القطاعين ذهبت مع الريح مع أول نكسة سياسية.

وفشلت الحكومة في دفع القطاع الخاص (الذي بحث عن الربحية بالدرجة الأولى) الى الإستثمار في القطاع الصناعي والقطاع الزراعي اللذين يُعتبران أساس إستدامة الوظائف.

على الصعيد المالي، لم تستطع الحكومة دوزنة سياستها الضريبية ولا تحصين آلية تحصيل الضرائب فظلّت الموازنة تُسجّل عجزًا لا يُمكن أن يحصل في إقتصاد يُسجّل نموًا بهذا الحجم إلا إذا وُجد الفساد والهدر.

المُلاحظ أيضًا أن النمو الإقتصادي (أنظر إلى الرسم) سجّل نسب تغيّرات عالية (high volatility) ناتجة عن غياب السياسات الإقتصادية وهذا ما قد يحصل مع أموال «سيدر-1» إذا عجزت الحكومة عن وضع خطّة إقتصادية لنمو إقتصادي مُستدام. وتُشير الأرقام الى أن النمو الإقتصادي توزّع من العام 1996 إلى العام 2017 على النحو التالي: 4%، 6%، 4%، 0%، 1%، 5%، 4.7%، 1.7%، 5.5%، 3.5%، 1.7%، 9.3%، 9.2%، 10.1%، 8%، 0.9%، 2.8%، 2.6%، 0.8%، 1%، و1.5%ٌ. وما سرد هذه الأرقام إلا لإظهار التغيّرات الحادة في النمو الإقتصادي بين سنة وأخرى والذي هو دليل غياب السياسات الإقتصادية.

أيضاً يُلاحظ من الأرقام أن هناك علاقة وثيقة بين الإستثمارات الأجنبية المُباشرة حيث نرى أن نمو أعوام المجد (2007-2010) تزامن مع إرتفاع كبير للإستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الذروة 4.378 مليار دولار أميركي في العام 2009. كما أن النمو الإقتصادي إنهار مع سحب هذه الإستثمارات التي كانت تعود بمعظمها للخليجيين.

ماذا تقول النظرية الإقتصادية؟

تقول النظرية الإقتصادية أن الإستثمارات هي مفتاح النمو الإقتصادي لأنها تُفعّل العمل البشري وتُعظّمه. وبحسب الباحث الإقتصادي والت روستو (Walt Rostow) فإن مرحلة تحفيز النمو الإقتصادي تمرّ إلزاميًا بإرتفاع الإستثمارات بنسبة تتراوح بين 5 إلى 10%.

هذه النسب تمّ احتسابها على أساس الإقتصاد العالمي في ستينات القرن الماضي، لكن مع التطوّر العلمي والتكنولوجي أصبحت الإستثمارات أعلى وبالتالي فإن نسب 10 إلى 20% مقبولة حاليًا.

يبقى السؤال عن كيفية تبرير هذا الدور الأساسي للإستثمارات؟ في الواقع إن الأموال المُستثمرة تذهب إلى شراء المُعدّات والأماكن للتصنيع وبالتالي فإن الإستثمارات موجّهة بالدرجة الأولى للشركات (وليس الدولة).

هذه الإستثمارات تُمثّل أقلّه واحدا على ستة من إجمالي الطلب الداخلي (الإقتصادي ديفيد رومر) في حال النموّ وثلثي الطلب في حال الركود الإقتصادي! هذه المُعادلة تأتي في صلب المدرسة الكينزية التي تنصّ على أن الإستثمارات يجب أن تكون عالية في حال الركود بهدف دفع النمو الإقتصادي وهذا الأمر يتمّ بإجراء نفسي على مناخ الأعمال عبر خفض سعر الفائدة أو من خلال إنفاق إستثماري حكومي. على الأمد البعيد، يُشكّل حجم رأس المال عنصرا من عناصر الإنتاج، وتراكمه يزيد من القدرة الإنتاجية.

وهكذا تلحظ النظرية الكينزية أنه في البلاد الفقيرة، يؤدّي نقص رأس المال إلى منع العمل ويحدّ من فعّاليته. من هنا ظهر مفهوم القروض الصغيرة (Micro-credits) التي تُساعد في تحفيز الصناعات اليدوية.

إن ما تمّ سرده أعلاه لا يهدف إلى إعطاء دروس في الإقتصاد بل للقول أن الحكومة اللبنانية محكومة بعدد من الإجراءات تُحدّد سياستها الإقتصادية في ما يخصّ الإستثمارات.

السياسة الإقتصادية والإستثمارات

إن الأموال التي تمّ تحصيلها من مؤتمر «سيدر-1» تُشكّل 20% من حجم الناتج المحلّي الإجمالي للبنان. وبالتالي وبحسب النظرية الإقتصادية فإنها كافية للنهوض بالنمو الإقتصادي (بفرضية أن تنفيذ المشاريع تمّ كما هو مُتوقّع).

إلا أن هذا الأمر لا يسمحّ بتأمين نمو مُستدام، فالمشاريع المنصوص عليها في مؤتمر «سيدر-1» هي مشاريع بنى تحتية بالدرجة الأولى وبالتالي كل الوظائف التي سيتم خلقها ستذهب مع إنتهاء هذه المشاريع. لذا يتوجّب على الحكومة العمل على وضع خطّة إقتصادية تكون دعائمها الإستثمارات في قطاعي الصناعة والتكنولوجيا.

لماذا قطاعي الصناعة والتكنولوجيا؟ بكل بساطة وبحسب النظرية الإقتصادية فإن مفهوم التنمية والحداثة تعني تملّك العلم والتكنولوجيا لإنشاء قاعدة صناعية مُتطوّرة تسمح للبنان بالحصول على إستقلاله الإقتصادي وتؤمّن فرص عمل للجميع مع إستدامة فرص العمل هذه. هذه الإستدامة في العمل تسمح للفرد اللبناني بالحصول على حاجاته الفسيولوجية كما ينصّ عليها هرم ماسلو.

على صعيد أخر، هناك إلزامية على عاتق الحكومة لتأمين إستثمارات بشكل متواصل، إن عبر القطاع الخاص اللبناني أو عبر الإستثمارات الأجنبية المُباشرة. وهذا ما فعلته تركيا للنهوض من مشاكلها في العام 2000، فإرتفعت الإستثمارات الأجنبية المُباشرة إلى 20% من الناتج المحلّي الإجمالي وتمّ الإستثمار في القطاع الصناعي والتكنولوجي بشكل كبير أصبحت معه تركيا أقوى قوّة إقتصادية في الشرق الأوسط.

تاريخيًا، حجم الإستثمارات الأجنبية المُباشرة كان أكبر بكثير من حجم الإستثمارات الداخلية. ولهذا السبب يتوجّب على الحكومة العمل على تحفيز هذه الإستثمارات من خلال خطّة قوامها التحفيز الضريبي، مناخ الأعمال، القوانين الحديثة، والثبات السياسي. هذا الأمر يعني بكل بساطة إجراء إصلاحات تطال محاربة الفساد، وتحديث القوانين كما وسياسة ضريبية مرنة.

التخّلف الإقتصادي

التخلّف الإقتصادي في النظرية الإقتصادية يعني أن البلد لا يستخدم كل الموارد المُتاحة أمامه. وهناك العديد من المؤشرات التي تؤكّد أن لبنان يعيش تخلّفًا إقتصاديًا منذ العام 1997: ركود في إنتاجية العامل، ناتج محلّي إجمالي يدلّ على أنه مُركّز بشكل أساسي على قطاع الخدمات المعروف عنه أنه ذات قيمة مضافة مُتدنّية، هجرة أدمغة كبيرة، تركيز في الإستثمارات على عدد محدود من القطاعات كالقطاع التجاري والقطاع العقاري والقطاع المصرفي، عدم إنفاق أموال على الأبحاث التي تُعتبر الأساس في معادلة التطور العصري، عجز هائل في الميزان التجاري يتمثّل بضعف الصادرات الصناعية وإفراط في إستيراد السلع التكنولوجية، إرتفاع العجز الغذائي والذي هو نتاج غياب الإنماء المتوازن بين العاصمة والأطراف، إرتفاع مُستوى البطالة، إنتشار واسع للفساد في الحياة الإقتصادية وفي هيكلية الدولة ينتقل ميكانيكيًا إلى بنية القطاع الخاص، التعلّق الكبير بالمعطيات الإقتصادية والسياسية العالمية كالتعلّق بأسعار النفط، والتوزيع غير العادل للثروة الوطنية.

هذه المؤشرات تؤكّد الغياب الكلّي للسياسات التنموية والإقتصادية وبالتالي هناك إلزامية لتغيير منهجية العمل التخطيطي للسلطة السياسية بشقيّها التنفيذي والتشريعي.