أغربُ ما في الزمن الانتخابي الحالي، أنّ غالبية القوى السياسية، وعلى وجه الخصوص، القوى المصنَّفة كبرى سياسياً وطائفياً، تغطّي علاقاتها «المتملِّعة» ببعضِها البعض، بإيهام الناس بأنّ افتراقَها عن بعضها البعض، واصطفافَها في جبهات متقاتلة على المقاعد النيابية، ما هو إلّا افتراق انتخابي مؤقّت، حدودُه السادس من أيار المقبل، وبعد الانتخابات تعود المياه إلى مجاريها، على قاعدة عفا الله عمّا مضى!
 

هذه القوى، وبلا مبالغة، لا تصدّق هي ما تقوله، فكيف للناس أن يصدّقوا؟ ومع ذلك تريد أن تزرع في أذهانهم هذه «الكذبة»، والقول بأنّ اختلافاتها العميقة، وصراعاتها المستميتة على المقاعد، هي أمرٌ طبيعي في زمن الانتخابات، وجزء من عناصر وأدوات المعركة الانتخابية، يحصل أينما كان؛ سواء في لبنان أو في أيّ دولة أخرى.

هذا التبرير، ساقط سَلفاً، لأنّ مجرّد مقارنة، ولو بسيطة بين لبنان وسائر الدول، والخطاب المستخدَم من قبَل هذه القوى السياسية، ما هو إلّا نموذج لا يُقارن مع أيّ كان، إذ إنّ له خصوصيته بالسبِّ والشتمِ والشحنِ والتحريض، والخطاب الطائفي والمذهبي، ولم يترك القيّمون عليه مصطلحاً إلّا واستخدموه، ولم يتركوا موبقةً على طريق الانتخابات إلّا ولمّوها عن الأرض ووضعوها في السياق الانتخابي.

مع ذلك، يريدون للناس أن يصدّقوا أنّ هذه القوى بعد السادس من أيار، ستطوي صفحة ما قبل الانتخابات بكلّ موبقاتها وتتخلّص من سيئاتها وإساءاتها للبلد ولعبِها بالناس وتهديدها لاستقرارهم وأمنِهم الاجتماعي وسِلمهم الأهلي، ولتعايشِهم، أو بالأحرى لعيشهم الواحد معاً، وتعود إلى التموضع في نقطة إعادةِ جمعِ البلد من جديد والتشاركِ مع كلّ الآخرين في إدارة الدولة وتوجيه دفّتِها إلى برّ الأمان!

عن أيّ برّ أمان تتحدّث هذه القوى، بعدما تجرّأت على المسّ بالمحظور، وبكلّ الحرمات والمحرّمات من أجل مقعدٍ نيابي؟

وكيف سيصدّق الجمهور ما تقوله عن طيّ صفحة ما قبل الانتخابات وعزمِها على الصعود مجدداً في سفينة الأمان، فيما هي، علناً وبلا خجل أو حياء، لم تحترم هذا الجمهور، ولم تتعاطَ معه على أنه يمتلك العقلَ والوعي والإدراك وحسنَ التقدير، ولا على أساس برنامج انتخابي صادق يحاكي أولويات هذا الجمهور وطموحاته وحقّه الطبيعي في وطنٍ يَطمئن إلى غده ومستقبل أبنائه، بل تعاطَت معه بانتهازية موصوفة، وباستعلاءٍ كريه نظرَ إلى هذا الجمهور كـ«آلة جامدة» لا حياة فيها، ولا إرادة لها، أو بشكل أدقّ كـ«حالة إسفنجية» لها وظيفتُها المحددة بامتصاص منطق الشحن والتحريض، والتفاعل معه، حتى تصبحَ جاهزةً لأن تُساقَ كقطيع من الأغنام إلى صناديق الاقتراع. ومع ذلك ما زالت تقول إنّها ستطوي الصفحة وتضع نقطةً على سطر المرحلة التحضيرية للانتخابات، وتدخل في التأسيس لمرحلة جديدة؟!

على أنّ المسؤولية عن هذا الواقع، أو بالأحرى هذا الانحدار الأخلاقي والسياسي، لا تقع على تلك القوى وحدها، بل إنّ المسؤولية الكبرى تقع على النسبة الكبيرة من هذا الجمهور، التي لم تخيّب نظرةَ هذه القوى إليهم، بل إنّها ثبتت أنّها قابلة بأن تُساقَ بهذه الطريقة، حتى إنّ البعض منهم تسابقوا وما يزالون يتسابقون على لفِّ الحبالِ حول رقابِهم، قبل أن يبادر السياسيون إلى لفِّ هذه الحبال على الرقاب نفسِها ويَجرّونها الى حيث يشاؤون وفي الاتّجاه الذي يريدونه!

من السذاجة افتراض أنّ مرحلة ما بعد الانتخابات، هي مرحلة أمانٍ سياسي، وعودةٍ للعقل من إجازته الانتخابية. ذلك أنّ الافتراق والتباين بين القوى السياسية، هو افتراق وتبايُن مزمِن، يعود لسنوات طويلة، وما حصَل في مرحلة ما قبل الانتخابات، هو أنّ هذه القوى قدّمت عناصرَ جديدة فاقمت الافتراق والتباين أكثر، وصعّبت أكثر أيَّ محاولة مستقبلية لتنفيسِه وتضييق الهوّةِ التي صارت عميقةً جدا بينها. والمتتبع لأدائها يتأكّد له تصميمُها على المضيّ في هذا المنحى دون أيّ اعتبار أو تقدير للتبعات والتداعيات على البلد.

القول عفا الله عمّا مضى، لا يستقيم مع الافتراق الكلّي وانقطاع الجسور نهائياً بين التيار الوطني الحر وحركة «أمل»، ذلك أنّ لحم العلاقة بينهما لا يحتاج فقط إلى طبيب مغربي، بل إلى جراحة استثنائية، ومع ذلك يبقى شفاء هذه العلاقة غيرَ مضمون. إلّا إذا نزل أحدهم عن الشجرة التي صَعد إليها وبدأ برشقِ الحجارة في اتّجاه عين التينة وكلّ الاتجاهات.

والقول عفا الله عمّا مضى، لا يستقيم مع ما هو أكثر في فتور في العلاقة بين التيار و»حزب الله». وعلى الرغم من التأكيد العلني من الطرفين بتمسّكِهما بالتفاهم بينهما، إلّا أنّهما على أرض الواقع يَعلمان أنّ هذا التفاهم ما زال يعاني الاهتزاز، وأنّ جمهور الحليفين منكفئ بغالبيته الساحقة كلٌّ إلى زاويته، وآثارُ استهدافِ الرئيس نبيه بري (الفيديو المسرّب لجبران باسيل)، لم تُمحَ بعد.

وزاد هذا الفتورُ والانكفاء أكثر في زمن الانتخابات والطريقة التي تَعاملَ فيها التيار مع الحزب، سواء باستبعاد مرشّحيه في بعض الدوائر، أو بالترشّح ضد لوائح الحزب في بعض الدوائر التي يَعتبرها «حزب الله» حسّاسة، أو دعم لوائح ضدّ الحزب.

والقول عفا الله عمّا مضى لا ينسجم، مع العلاقة المتداعية بين التيار و»القوات اللبنانية»، وثمّة مسارٌ طويل عبَرت فيه هذه العلاقة؛ مِن سوء التفاهم إلى التباين، إلى الافتراق على الأولويات، وعلى التعيينات، وعلى الأداء الاستئثاري والمنطق الفوقي، والنتيجة الموضوعية لهذا المسار أنّه هزَّ تفاهمَ معراب، إلى حدٍّ بدا فيه أنه أصبح مجرّد حبرٍ على ورق.

والقول عفا الله عمّا مضى، لا ينسجم مع الافتراق والثقة المهتزّة بين سعد الحريري ووليد جنبلاط، ولا مع ما هو أكثر من افتراق بين الحريري و«حزب الكتائب»، وبين الحزب وكلّ الآخرين، ولا مع عدمِ الانسجام بين الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر، ولا مع الخصومة الشديدة، التي تشبه «العداوة» بين التيار الحر وتيار المرَدة. ولا مع الافتراق النهائي بين «حزب الله» وتيار المستقبل، ولا مع الاشتباك السياسي المحتدم بين الحريري والقوى التي برَزت في الميدان السنّي وأخَذت من طريق تيار المستقبل.

هذه هي الخريطة السياسية، التي كانت سائدةً، قبل الانتخابات، وما قبل قبل الانتخابات، هي نفسُها ستنتقل بكلّ تعقيداتها و«تشَلّخاتها» الى ما بَعدها، بتغييراتٍ شكلية ستُحدثها الانتخابات في لوحة مجلس النواب؛ القوى السياسية هي نفسُها، إنّما بأحجام متفاوتة، زيادة نائبٍ هنا، ناقص نائب هناك، المهمّ لا تغييرات جوهرية تمنَح لأيّ طرفٍ سياسي قدرةَ الغلبة والتحكّم وفرضَ كلمتِه. ما يعني أنّ ما كان في مجلس النواب الراحل، هو الذي سيكون في المجلس الجديد.

الرئاسة محسومة للرئيس بري برغم أنّ هناك من يفكّر بفتحِ معركةٍ حولها، فقط من باب «الزكزكة» و»التشويش»، رئاسة الحكومة لسعد الحريري، وأمّا الحكومة فتشارُكية وبحسب الخريطة النيابية الجديدة، إلّا أنّ ولادتَها ستستعصي حتماً في ظلّ توجّهِ بعضِ القوى، لفتح معركةٍ حول وزارة المالية لانتزاعها من بري، وحول بعضِ الوزارات الخدماتية المهمّة، خصوصاً تلك التي تسمّى بـ«الوزارات المدهنة»، وهذا معناه أنّ البلد مقبل على اشتباك ربّما أكثر وقعاً وحدّةً ممّا هو حاصل اليوم، ونتيجتُه الحتمية تعميقُ الانقسام السياسي أكثر فأكثر.