السعودية والعرب يبددون غيوم اللبس التي احتشدت من مداخن البيت الأبيض وفريقه المكلف بإعداد صفقة على طريقة ترامب لوأد صراع تاريخي.
 

أن يطلق العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز اسم “قمة القدس” على القمة العربية في الظهران، فذلك أن الرياض تريد ضبط البوصلة مجددا صوب “القضية” الوحيدة التي حظيت ومازالت تحظى بإجماع عربي تاريخي لا لبس فيه. وفي ذلك أن السعودية تريد أيضا حسم الجدل الذي تنامى منذ أن شاع الحديث عن “صفقة القرن” التي مازالت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاجزة عن إخراجها رسميا إلى العلن.

غير أن لـ“قمة القدس” أبعادا أخرى انطلاقا من قاعدتها الفلسطينية. تعتبر الرياض أن “السعودية الجديدة” تحتاج إلى منظومة عربية جديدة. بدا أن إعادة ترتيب الموقف العربي حول القدس يروم السعي إلى ترتيب البيت العربي الداخلي، متأسسا على جذور فلسطينية مُجمع عليها امتدادا نحو فروع يتطور الموقف العربي نحو المزيد من التقارب والتماهي داخلها.

بات العرب مدركين الحاجة إلى دينامية عربية داخلية تحصّن كافة دول المنطقة من أخطار الأنواء الداخلية، كما من الرياح التي تنفخها التحولات الدولية، وربما التاريخية، التي تحضّر لمشهد جديد يعيد رسم الخرائط الكبرى، ليس على مستوى المنطقة فقط، بل على مستوى العالم أجمع.لا يرتفع الوعي العربي على أساس عقائدي بليد يشبه تلك التي نفخت بها الأحزاب الأيديولوجية التي تحوّل بعضها إلى أنظمة سياسية تبشّر بالأمة العربية والدولة الواحدة.

يتراكم هذا الوعي الجديد على قواعد واقعية تجعل من المنظومة العربية مصلحة وليس شعارا لا صدى عمليا له. أدركت العواصم أن مصير المنطقة لم يعد بيد أهلها. باتت تركيا وإيران وإسرائيل تتحكم بيوميات العالم العربي كل لصالح أجندته الخاصة، ناهيك عن أجندات دولية تقليدية ترسم مسارات ومصائر لهذه الدولة أو تلك.

بات العرب مدركين الحاجة إلى دينامية عربية داخلية تحصّن كافة دول المنطقة من أخطار الأنواء الداخلية، كما من الرياح التي تنفخها التحولات الدولية

يغيب العرب بشكل فاضح عن الانخراط في ورشة فاعلة لوقف الكارثة السورية. ويكاد العرب يغيبون عن الاضطلاع بدور وحيد مفصلي لحل الصراع في ليبيا. وإذا ما كانت السعودية والحلف العربي يركزان جهودا في المسألة اليمنية، فإن الصراع في اليمن يبقى شأنا خليجيا تستقيل الجامعة العربية، بصفتها جامعة كل العرب، من دور حيوي لإخراج هذا البلد من محنته.

وإذا ما استقال العرب ككتلة سياسية واحدة من حلّ أزمات العرب كـ”أمة واحدة”، فذلك أن ركاكة تدور حول مفهوم الأمة، ناهيك عن أن البراكين التي تنفجر في هذه الدولة أو تلك رفّعت من منسوب الهموم المحلية على حساب مقاربة إقليمية شاملة. لكن بالمقابل فإن سقوط الفكرة القومية التي راجت في ستينات القرن الماضي واندثارها بعد تحولها إلى وسيلة لقيام الاستبداد، أسس لقيام فكرة العروبة بمعناها الثقافي والهوياتي المتخلّصة من أي أبعاد سلطوية تبشر بالدولة المزعومة الواحدة.

تفرجُ المداولات العلنية في قمة الظهران عن توْق جماعي للاهتداء إلى نقطة توازن يجتمع فوقها النظام السياسي العربي كما هو حاله الحقيقي وليس حاله المتخيّل. يعود المغرب كما المشرق كما وادي النيل كما منطقة الخليج إلى التحلّق حول نواة لا خلاف عليها تتشكل من دائرة القدس المركزية وقضية فلسطين حولها. يفرج البيان النهائي عن ثبات النظرة العربية المشتركة إزاء إيران، وهو أمر لطالما كان عرضة لانقسام داخل الصف العربي، كما من اتفاق على رفض تدخل تركيا في شؤون المنطقة، كما على تمسك بمواقف العرب بشأن أي صفقة حقيقية تنهي الصراع مع إسرائيل.

أراد الملك سلمان، بعد عودة ولي عهده الأمير محمد بن سلمان من زيارة طويلة له للولايات المتحدة، أن تكون القمة العربية “قمة القدس”، وفي ذلك معنى إضافي لا يفوت المراقبين. يرسل العرب رسالة جماعية ترفض قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لإسرائيل. يصرّح العرب بصواب الموقف الفلسطيني في رفض أمر الاعتراف، ويعلنون دعمهم الكامل للخيارات الفلسطينية المدافعة عن الحقوق الفلسطينية التي تقرها الشرعية الدولية. يحسم العرب الجدل حول الموقف من “صفقة القرن”. هم لا يعرفون هذه الصفقة الموعودة ولم يطلعوا إلا على همهماتها على صفحات الجرائد إلا أنهم يعيدون في الظهران التمسك بما سبق أن أعلنوه في بيروت عام 2002.

أرادت الرياض أن تقول من خلال قمة الظهران إن العرب بدولهم الـ22 غير معنيين بمنتج أميركي يطال القدس ووضعها الراهن ولن يمنحوا أي غطاء لأي خطة تفرض على الفلسطينيين لا تأخذ بعين الاعتبار الموقف العربي المتمسك بالمبادرة العربية للسلام في انسحاب الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 عاصمتها القدس الشرقية. وعلى هذا فإن السعودية والعرب يبددون غيوم اللبس التي احتشدت متصاعدة من مداخن البيت الأبيض وفريقه المكلّف بإعداد صفقة على طريقة ترامب لوأد صراع تاريخي استسهل الرئيس الأميركي حل عقده بأسلوب البزنس.

الشعوب العربية تعتبر أن للقمم ضجيجا ينتهي بانتهائها، بيد أن همّا مشتركا يقضّ مضجع كافة عواصم المنطقة دون استثناء، بات يتطلب أن تبقى القمة التي ختمت أعمالها في الظهران مفتوحة داخل غرف القرار

تكاد القاهرة تنطق بلسان الرياض. الرئيس المصري تحدث عن منظومة عربية مطلوبة متماهيا في ذلك مع خطاب سعودي يسعى لتحالفات عربية وإسلامية تعيد قرار المنطقة لأهل المنطقة. وتكاد خطابات زعماء الدول الذين تعاقبوا على الكلام تنهلُ من نفس الوعاء حاجةً ملحة لإرساء منظومة عربية إقليمية تقف سدا منيعا ضد التدخل الإيراني في المنطقة. وفيما أن هذه المسألة مازالت ترفع لدى لبنان والعراق منسوب الحرج والحساسية، بيد أن المشهد بات مختلفا إن لجهة استيعاب المجموعة العربية لحساسيات بعض الأعضاء، وإن لجهة تراجع النفوذ الذي تملكه طهران داخل دول المنطقة، حتى في لبنان والعراق، ناهيك عن غموض مستقبله في سوريا.

يجتمع العرب على موقف مبدئي رافض لتدخل تركيا في شؤون العراق، كما أي تدخل في شؤون الدول العربية. وعلى أساس ذلك الموقف إزاء دولة لا قطيعة معها يتحرى العرب قواسم مشتركة يهتدون من خلالها إلى طبيعة النظام العربي الجديد الذي يجب أن يتسق مع مستجدات أطلت على المنطقة منذ التحولات التي أطلقها “الربيع العربي” منذ سبعة أعوام.

وفيما أهملت القمة التطرق للأزمة مع قطر بصفتها أزمة داخلية خليجية تُحل بالوسائل والمقاربات الخليجية، فإن استسلام القادة العرب لهذه الحقيقة عكس نضجا بضرورة عدم إثارة ملفات خلافية، والعمل على إنضاج ما هو توافقي وتوسيع مساحاته والبناء عليه للحفاظ على فعالية تكاملية رفيعة وطموحة.

حضر القادة العرب المشاهد النهائية لتمرين “درع الخليج” الذي شاركت فيه قوات من 24 دولة. في رسالة السعودية والعرب، أن المنطقة باتت تحتاج إلى الاعتماد على قواها الذاتية العسكرية في مواجهة الأخطار المركبة التي تهدد العالم العربي. لم يعد أمر ذلك ترفا بل حاجة لتصحيح المشهد الإقليمي الكلي.

تؤسس مداولات الظهران في مضمونها وفي شكلها لورشة فكرية وعملية عاجلة لا تحتمل الانتظار. صحيح أن الشعوب العربية تعتبر أن للقمم ضجيجا ينتهي بانتهائها، بيد أن همّا مشتركا يقضّ مضجع كافة عواصم المنطقة دون استثناء، بات يتطلب أن تبقى القمة التي ختمت أعمالها في الظهران مفتوحة داخل غرف القرار لتشييد منظومة عربية تشبه واقع العالم العربي وتستجيب لأبجدياته.