تتركّز أنظار معظم القوى السياسية على مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، خصوصاً انّ الفترة الفاصلة عن الاستحقاق هي ١٧ يوماً، وما كتب نيابياً قد كتب بانتظار ما ستفرزه صناديق الاقتراع
 

الخلاصة الأولوية للمشهد الانتخابي تفيد انّ معظم القوى السياسية لا تريد تحويل الانتخابات إلى محطة لقطع الجسور السياسية، بعدما وصلت إلى قناعة مفادها انّ قطع الجسور لا يقدّم ولا يؤخّر في المحصّلة السياسية النهائية، بل جميع القوى السياسية تكون، في حال أقدمت على الفصل، في موقع الإساءة إلى البلد وجمهورها غير القادر على مواصلة تَحمّل تَبعات الأزمة الاقتصادية، خصوصاً انّ أحداً غير قادر على الحسم لمصلحته.

وما تقدّم لا يعني أنّ أحداً في وارد التخلّي عن قناعاته وثوابته وأهدافه، بل كلّ طرف سيواصل سَعيه لتثبيت وجهة نظره للبنان ودوره، بين من يرى ان لا استقرار نهائياً قبل قيام الدولة الفعلية على غرار اي دولة طبيعية في العالم بعيداً عن الاستثناء الذي تحوّل إلى دائم منذ العام ١٩٦٧ إلى اليوم، حيث لا تَعايش بين منطق الدولة ومنطق المقاومة، فإمّا دولة او مقاومة، وبين من يرى انّ سلاح «حزب الله» ضرورة استراتيجية ولن يقدم على تسليمه، وانّ التعايش بين المنطقين ليس مستحيلاً بدليل الوضع الحالي.

وإذا كان من الثابت انّ الصراع في لبنان بشقّه السيادي سيستمر حتى انتصار منطق من المنطقين، علماً انّ الانتصار في نهاية المطاف سيكون لمنطق الدولة، أي للمنطق الطبيعي وليس الخارج عن الطبيعة، فإنّ استقالة الرئيس سعد الحريري دَلّت بوضوح انّ أولوية المجتمع الدولي هي الحفاظ على الاستقرار اللبناني بمعزل عن اي شيء آخر، وقد سارع هذا المجتمع إلى تظليل لبنان دولياً وإطلاق مؤتمرات عدة بهدف منع انهياره اقتصادياً.

فالأحداث الأخيرة دلّت عملياً على تقاطعين: تقاطع داخلي بدأ عملياً مع حكومة الرئيس تمام سلام وتوّج مع انتخاب الرئيس ميشال عون وتكليف الحريري وتشكيل حكومته تحت عنوان تحييد الملفات الخلافية من دون إهمالها، وتقاطع خارجي متمسّك إلى أبعد الحدود بإبعاد لبنان عن أتون الصراعات في المنطقة. وهذا ما يفسّر غياب الاصطفافات الداخلية، كما الحماوة السياسية المعهودة في زمن الانتخابات.

ولا أحد يتوهّم انّ كل هذا الوضع معرّض للانهيار في لحظة واحدة في حال طلبت طهران من «حزب الله» أن يُوتِّر الوضع في لبنان، في سياق رسائل إيرانية إلى الغرب بضرب الاستقرار اللبناني في حال أمعَن المجتمع الدولي في هجومه عليها، وبالتالي استخدام لبنان مجدداً كصندوق بريد لتوجيه الرسائل، لا سيما انّ طهران تعتقد انّ التلويح بتفجير لبنان يدفع المجتمع الدولي إلى التنازل والتراجع.

وما تجدر الإشارة إليه انّ الوضع في المنطقة ليس على ما يرام، بل التصعيد هو سيّد الموقف، والمنطقة مُقبلة على تطورات كبرى من الرد المحتمل لإيران على إسرائيل والتي يمكن أن تجدها ذريعة لشَن حرب عليها، علماً انّ الاعتقاد الغالب بأنّ طهران لن ترد، ولا تملك ترف الرد، إلى خروج واشنطن من الاتفاق النووي وتداعيات خطوة من هذا النوع، وصولاً إلى نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وبالتالي، كل تلك الأحداث يمكن ان تدفع المنطقة إلى الحرب ويذهب لبنان بالمعموعة.

فلبنان كان وما زال على فوهة بركان، ولكنه يستفيد اليوم وحتى إشعار آخر من استقرار يشكّل مصلحة مشتركة داخلية وخارجية، وقد ترجمت هذه المصلحة سياسياً باعتماد سياسة النأي بالنفس، واقتصادياً بمَدّ لبنان بأوكسيجين يجعله محافظاً على استقراره المالي، وهذا في حال تمّ اللجوء إلى إصلاحات جدية وخطوات إصلاحية فعلية لا ترقيعية وتمويهية، كما كان يحصل باستمرار.

وفيما يصعب تقدير اتجاه الأمور في لبنان والمنطقة، فإنّ كل الاستطلاعات كانت قد أكدت أنّ أولوية اللبنانيين في هذه المرحلة، لجملة اعتبارات وأسباب، هي مالية واقتصادية ومعيشية وإصلاحية، وحتى شعار المقاومة لم يعد جذاباً لدى البيئة الشيعية التي تريد تأمين لقمة عيشها لتتمكّن من مواصلة المقاومة، وهذا ما يفسّر الوثيقة السياسية التي أعلنها «حزب الله».

ولذلك الأولوية المرجّحة في المرحلة المقبلة، في حال سمحت الظروف الإقليمية، ستكون اقتصادية بامتياز، ما يعني انّ عنوان الصراع الأساس سيكون على طريقة إدارة الدولة، وهذا الأمر بات مفروغاً منه، ومن الواضح انّ كل فريق يستعدّ على طريقته لهذه المواجهة. وبالتالي، يجب تَوقّع او عدم استبعاد ثلاثة سيناريوات:

السيناريو الأول محاولة يائسة لاستبعاد او تحجيم القوى التي ستشكّل رأس الحربة في هذا العنوان في الحكومة، علماً انّ تأليف الحكومة يخضع لتوازنات وطنية وسياسية دقيقة ليس من السهولة بمكان القفز فوقها وتجاوزها.

السيناريو الثاني الانتقال من الاستبعاد والتحجيم إلى التضييق قدر الإمكان على القوى التي تحمل مقاربة متكاملة لطريقة إدارة الدولة، لأنّ الأمور لا يمكن ان تستمر وفق الطريقة المُتّبعة منذ العام 1990 إلى اليوم.

السيناريو الثالث بروز اصطفافات من نوع جديد، وقد بدأت معالمها بالظهور أساساً، والاصطفاف الجديد لن يكون أقلّ حدة من الاصطفاف الذي كان قائماً سيادياً، إنما ضرورات المرحلة التي استدعت تجميد الاصطفاف السيادي بانتظار الظروف التي تُعيد تفعيله، تستدعي اليوم اصطفافاً إصلاحياً من أجل إنقاذ لبنان من الانهيار.