في مناسبة بباكستان، احتفاءً بوكيل الأزهر الدكتور عباس شومان، تجاوز وكيل الأزهر في محاضرته التوصيفات المعتادة لـ«القاعدة» و«داعش» باعتبارهما «خوارج العصر» إلى اعتبارهما «أهلَ الفساد في الأرض»، الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقَطَّعَ أيديهم وأرجلهُم من خلافٍ أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخِرة عذابٌ عظيم». والفقهاء المسلمون القدامى يُسمُّون ارتكابات قطّاع الطرق والعصابات المسلَّحة: جرائم الحِرابة، الذين تنفّذ السلطات والقضاء بحقّهم العقوبات المتنوعة الواردة بالآية، بحسب الجريمة أو الجرائم التي ارتكبوها. وتابع وكيل الأزهر مقاربته بالتمييز بين هؤلاء، وأولئك الذين تنطبقُ عليهم «أحكام أهل البغي»، وهم بحسب الفقهاء: المتمردون الذين يكون لتمردهم «تأويلٌ سائغ»، بأن تكون لهم مطالب اجتماعية أو اقتصادية أو مظالم يمكن النظر فيها من جانب السلطات، مثلما سلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الثائرين عليه. فالبغاة، أي أصحاب البغْية أو المطلب الذي تكون فيه شبهة صحة أو تسويغ، ليس من حقهم حمل السلاح، لكنهم إن حملوه ثم هزمتهم السلطات، لا يتعرضون للقتل أو مصادرة الممتلكات، ويظل السعي جارياً لاستيعاب بقيتهم ما داموا قد ألقوا السلاح. أما مجرمو الانشقاقات؛ فهم مثل القرامطة وأهل الاستعراض، الذين ليست لهم مطالب يتقدمون بها مما يمكن الاستماع إليها. ثم إنهم يهاجمون السلطات والمجتمعات على حدٍ سواء، ويمارسون في مناطق استيلائهم أفعالاً مشينة في قتل الناس واستعبادهم... وقد ذكر الدكتور فالح عبد الجبار في كتابه عن «دولة» داعش، أنه في مدينة الموصل بالذات، أمر قضاء التنظيم بإعدام نحو الخمسمائة، ثم تبين بعد شهور أنّ الأحكام كانت خطأ في معظمها، فاكتفت شرطة أُخرى هي شرطة الحسبة بالتعويض على أهالي المقتولين، أما القضاة - وهم من شبان الشوارع - فإنهم لم يفقدوا مناصبهم!
يرى وكيل الأزهر إذن أنّ البُغاة أو المعارضين، تنطبق عليهم ولو من بعيد شروط المعارضة السياسية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. أما العصابات المسلحة من أهل الاستعراض فهم محاربون من دون قضية، ولا هدف لهم غير الإرعاب بالإبادة، لتسهيل خضوع المعذَّبين تحت حكمهم. ولذلك تنطبق عليهم السِمات التي ذكرها القرآن الكريم للمفسدين في الأرض. وقد رأيت بعد تأمل أنه بالنظر لارتكابات «إدارة التوحش» هذه؛ فإنّ تسمية المفسدين في الأرض ليست بعيدة عنهم، ولا بد من مكافحتهم واستئصالهم بشتى السُبُل. وبالطبع فإنه لا ينطبق عليهم وصف البغاة، الذين تتحقق عودتهم إلى «الجماعة» بقضاء المطلب الذي خرجوا من أجله.
إنما ليس هنا مربط الفرس، كما يقول المثل. بل المشكلة كل الوقت في الوصول إلى تشخيص لهذا الهول الهائل، ثم البحث عن آية أو حدثٍ تاريخي يمكن القياس عليه، لإصدار الحكم في هذه الجريمة أو تلك. ولأنّ ارتكابات الانشقاقيين باسم الإسلام غريبة ومتوحشة وفريدة من نوعها، والنماذج التاريخية التي يمكن القياس عليها ضئيلة بل نادرة، استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى توصلنا إلى تشخيصٍ فيها، نجد إرشادات بصدده من النصوص أو الموروث. وهكذا تخلصنا من الربط بين الجريمة والكفر مثلما كان الدواعش الذين استحلوا دماءنا بالتكفير، يريدوننا أن نفعل: أن نتقاذف معهم بقذائف التكفير واستحلال الدماء والأعراض والأموال مثلما فعلوا ويفعلون. لكننا ونحن ننجو من هذا المهلك، وقعنا في أمرٍ آخر شديد الإشكال، للخروج منه صعوباته. وهو اللجوء إلى الموروث التفسيري، والموروث الفقهي، بل والموروث العَقدي!
منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وعندما قتل أسلاف «القاعدة» والدواعش الرئيس المصري أنور السادات باسم الدين، بنيتُ فرضية صارعْتُ بها اليساريين وليس الجهاديين فقط. قلتُ إنّ هؤلاء، ومنذ أكثر من قرن انصبّ جهدهم على الخروج على تقاليد الفقه والعقيدة، وما اعتبروه جموداً وابتداعاً، إمّا من أجل التأصيل وفتح باب الاجتهاد بالعودة إلى الكتاب والسنة مباشرة، أو من أجل التأصيل أيضاً، لكن لقراءة الكتاب والسنة من جديد رجاءَ الدخول على النموذج الأوروبي (من جانب الإصلاحيين). ونتيجة هذا الجهد المشترك من جانب الأصاليين والتحديثيين تصدع التقليد الذي تعطلت قدراته على الحركة بالفعل، وظهر من بين تصدعاته الصحويون والجهاديون الذين أرادوا لأنفسهم ولنا ثوراناً بالدواخل، وثوراناً على العالم، وصراعات في كل مكان لضرب التغريب، ولإقامة النظام الإسلامي الكامل!
لقد كنتُ أجادل الماركسيين واليساريين بأنّ حملتهم على الموروث لها سببان: أنه يمنع الدخول في العصر والحداثة، وأنّ الأصوليين يستندون في عنفهم إلى هذا الموروث، ولا صحة لشيء من ذلك، إذ نحن منذ مطالع القرن التاسع عشر نمارس عمليات التحديث دونما عقبات دينية كبيرة، أما الأصوليون الأصاليون فهم ضد الموروث والتقليد مثلكم تماماً. وكنتُ قد جادلتُ محمد أركون في الأمر ذاته في أواسط ثمانينات القرن الماضي، فغيّر رأْيه، وأصدر كتابه: استحالة التأصيل، لكنه عاد في التسعينات وما بعد لمنافسة الأصاليين على القرآن بحجة أنّ الكثرة الإسلامية الهائلة قعدت على النص وكتمت أنفاسه، وهو يريد تحريره منها!
الجديد الجديد فيما حصل في السنوات القليلة الماضية، أنّ المتطرفين، وبعد استنزاف الكتاب (بالإنفاذ الحرفي لبعض نصوصه متجاهلين تقاليد الجماعة في الفهم والتفسير)، والسنة (في جوانبها الملحمية وأمارات يوم القيامة)، رجعوا متجاهلين كل الإنكار السابق، إلى الموروث الفقهي، والموروث السياسي، فاستخدموا عنوان الخلافة وشاراتها المنقضية، وممارسات وحشية زعموا أنها من تقاليدها. وعمدوا إلى كثيرٍ من الآراء الفقهية من مذاهب مختلفة، فطبّقوها في محاكمهم، متجاوزين السلفيات والاجتهاديات معاً!
إنّ الصراع اليوم يجري على الإسلام كلّه في نصوصه، وفي عقائده، وفي موروثه الفقهي والسياسي. وهو صراعٌ تتعدد فيه الجبهات، لأنّ الأصاليين الخامنئيين مثل القاعديين والداعشيين قاتلونا على النصوص، وهم الآن يقاتلوننا على الموروث. فالأمر كما قال الإمام علي: بالأمس قاتلناكم على تنزيله، واليوم نقاتلكم على تأويله! هم يصيرون لاستخدام الموروث بأشكالٍ انتقائية، مثلما استخدموا النصوص بأشكالٍ انتقائية. وكما رددنا عليهم بآياتٍ أُخرى، وهاجمنا تحريفاتهم للمفاهيم القرآنية والنبوية، فنحن مضطرون الآن للذهاب إلى ما ترددنا سابقاً في الذهاب إليه وهو أنّ الخلافة ليست من الدين، وأنّ رأْي الإمام الشافعي أنه يجوز القتال بعلة الكفر، ليس من الدين في شيء أيضاً.
لا بد من استراتيجية أُخرى، ولا بد من سردية أُخرى للدين ولنَسَب الدولة.