نحاول أن نكتب، نبحث عن الكلمات، نجد أنّ المرشّحين إلى الانتخابات النيابية قطعوا الكلام من السوق، صادروا الأفكار ولم يتركوا لغيرهم ولو حتى كلمة شُكر... الشعارات تملأ الطرقات، الوعود تنتصب على كلّ مفرق وفي كعب كلّ طلعة، شعارات يمكن استخدامها أغانيَ في رحلات مدرسية (مع لمسة طبلة خفيفة) أو يمكن كلمات شارة مسلسل عن علاقة حب ممنوعة (مع فيديوكليب تراثي)... وكمّية الشعارات والوعود المرمية في الشوارع تفوق الكمّية الموصى بها عالمياً لعملية غسيلِ دماغ جماعية ناجحة. هذه ليست عملية غسيل دماغ، هذه إبادة جماعية لا تقتلنا فوراً برصاصة في مؤخّرة الرأس بل تتركنا نموت عالبطيء.

وحتى لا تقولوا إنّ هذا كلام في الهواء، دعونا نتذكّر وزيرَ البروباغندا النازية جوزف غوبلز، الذي كان يفرض سطوةَ الفكر النازي وتمدُّدَه بناءً على مقولته المشهورة «الكذبة التي تقولها مرّة تبقى كذبة، أمّا الكذبة التي تردّدها ألف مرّة تصبح الحقيقة»، وهكذا اشتغلَ العسكر النازي بناءً على أيدولوجيا أنه كلّ ما تكبر الكذبة كلّ ما زادت فرصة تصديقها.

كان اليهود يَعلمون جيّداً أنّهم يتعرّضون لعملية إبادة جماعية في ألمانيا وفي بلدان أوروبا الشرقية، وكانوا مدرِكين تماماً أنّ معسكرات الاعتقال الضخمة في بولندا والنمسا وأوكرانيا وغيرها من الدول لم تكن سوى المحطة الأخيرة في حياتهم البائسة، ومع هذا كلّه، وعلى رغم المرض والجوع والبرد والإحباط كانوا ينتظروا كذِبَ النازيين عليهم حتى يَشعروا ببعض الأمل والانفراج.

وكانت ساديّة النازيين عظيمة لدرجة أنّهم عندما كانوا يأخذون اليهود إلى غرف الغاز، كانوا يقولون لهم إنّهم سيأخذون حماماً جماعياً ساخناً قبل أن يتمّ الإفراج عنهم... وحتى إنْ كان اليهود يَعلمون أنّهم متوجّهون إلى الموت الحتمي، كان يطيب لهم تصديق الكِذبة من أجل لحظةِ فرجٍ ولو خاطفة قبل الفاجعة، ولمّا كانوا يقفون تحت المرشّات لم تنزل منها المياه الساخنة بل الغازات القاتلة، ومن هناك إلى المحارق والمقابر الجماعية.

الآن دعونا نعيد المقطعَ الأخير مع نفسِ التفاصيل ولكن بأسماء مختلفة:

كان اللبنانيون يعلمون جيّداً أنّهم يتعرّضون لعملية إبادةٍ جماعية في مختلف المحافظات اللبنانية، وكانوا مدركين تماماً أنّ التحالفات السياسية المريضة لم تكن سوى المحطة الأخيرة في حياتهم البائسة، ومع هذا كلّه، وعلى رغم المرض والجوع والبرد والإحباط والديون، كانوا ينتظرون كذِبَ بعضِ المرشّحين عليهم حتى يَشعروا ببعض الأمل والانفراج.

وكانت سادية هؤلاء المرشّحين عظيمةً لدرجةٍ أنّهم عندما كانوا يأخذون اللبنانيين إلى غرفِ الانتخاب، كانوا يقولون لهم إنّهم سيختارون أفضلَ مرشّح على الإطلاق لمستقبلِ بلدِهم حتى يفرجها الله في وجههم... وحتى إنْ كان اللبنانيون يعلمون أنّهم متوجّهون إلى المستقبل القاتم، كان يَطيب لهم تصديق الكذبة من أجل لحظةِ فرجٍ ولو خاطفة قبل الفاجعة، ولمّا كانوا يقفون تحت المنصّات وأمام المنابر لم تنزل منها الوعود الساخنة بل الكذبُ والمحسوبيات والرشاوي والفساد القاتل، ومِن هناك مجدّداً إلى مقابر الغلاء والبطالة والظلم والتعتير الجماعي.

إنتحرَ أدولف هتلر وانتحرَ جوزف غوبلز واستَسلم العسكر النازي وانتهت الحرب العالمية الثانية وانتهت معها المجازر بحقّ اليهود، ومرّت أكثرُ من 70 سنة ولم نتعلّم نحن بعد كيف نَفرز النفايات التي تُسمّم حياتنا ومستقبلَ أولادنا قبل طمرها.