تكثر المؤشرات السلبية التي تسبق فتح صناديق الاقتراع في السادس من أيار المقبل، ولا يبدو القانون مرغوباً، أو ربما مفهوماً، من فئة واسعة من الناس والأهم عدم اقتناع شرائح واسعة بوجود وظيفة سياسية حقيقية لاستحقاق من المفروض أن يكون سياسياً بامتياز
 

التحالفاتُ غريبة ومتناقضة، تركيبات اللوائح هجينة، رائحة المال تفوح بقوة من اعضاء اللوائح ما فتح شهية الناخبين لعرض اصواتهم في سوق البيع والشراء من دون وجل او خجل، الكفاية السياسية التي لا تبدو متوافرة إلّا لدى القليل القليل من المرشحين، وإعادة ترشيح اشخاص أثبتوا فشلهم في الندوة النيابية اضف الى ذلك تصاعد الشكاوى عن ضغوط تحصل.

كل ذلك أفقد الانتخابات هويتها الحقيقية ما أدّى الى انعكاسات سلبية على مستوى الشارع المسيحي لجهة تراجع الحماسة للمشاركة في العملية الانتخابية.

أما على مستوى الشارع السنّي فإنّ الحوادث الامنية المتعددة وظهور السلاح وحصول إطلاق نار عكس وجود حالة قلق لدى القوى السياسية ولا سيما منها تيار «المستقبل» من توجّهات الكتل الناخبة.

في الشارع الدرزي سارع وليد جنبلاط الى احتواء التناقضات التي ظهرت لمعرفته بأنّ انعكاساتها السلبية قد تصيب وريثه السياسي وهو الذي يستعدّ لدخول قاعة الزعامة الجنبلاطية وقد يكون وليد جنبلاط هو الوحيد الذي يعمل على مقاربة ملف الاستحقاق النيابي بواقعية.

يبقى الشارع الشيعي والذي يراقبه بتمعّن معظم السفارات الغربية والعربية. باكراً عمل «حزب الله» على إقفال نوافذ البيت الشيعي بعد تفاهمه مع الرئيس نبيه بري على طريقة ادارة ملف الانتخابات. هي بالتأكيد ليست التجربة الانتخابية الاولى لـ»حزب الله» لكنها قد تشكّل النقلة النوعية الاولى والاكبر في مساره السياسي.

عام 1992 بدأ مسار «حزب الله» النيابي خجولاً، وخلافاً لاعتقاد كثيرين فإنّ القيادة السورية لم تكن ترغب في إدخال «حزب الله» الى المجلس النيابي خشية إثارة الاميركيين الذين أوكلوا دمشق الملف اللبناني، لكن بعد كثير من الأخذ والرد اقتنعت دمشق بأنّ دخولاً ولو خجولاً لـ»حزب الله» الى المجلس النيابي هو لمصلحة الدور السوري في لبنان، وهو ما عملت سوريا على تسويقه لاحقاً تحت عنوان «استيعاب حزب الله».

وعام 2005 كانت المرحلة الثانية من مسار «حزب الله» النيابي. كانت المرحلة قد شهدت خروجَ سوريا من لبنان وتدشين خطة تطبيق القرار 1559. وخاض «حزب الله» الانتخابات النيابية اقتراعاً بقوة ولكن بشيء من «الحياء» السياسي موكلاً قرارَه داخل الدولة لبرّي وهو ما استمرّ مع انتخابات العام 2009 وحتى الآن.

اما مع الانتخابات الحالية فبدا أنّ «حزب الله» قد اتّخذ قراره بإحداث نقلة نوعية هي الاكبر في تاريخه السياسي. نقلة على مستوى التفكير الاستراتيجي للحزب، أي الانتقال من الانغلاق السياسي الى مرحلة التعاون كلياً مع الشرائح السياسية الاخرى.

هو نموذج يقدمه «حزب الله» قابل لأن يكون مثالاً للعراقيين، وحتى للإيرانيين. بالتأكيد ستعمد السفارات الغربية، وتحديداً الاميركية والاوروبية الى قراءة ومتابعة خريطة توغل «حزب الله» وتفاعله داخل مؤسسات الدولة اللبنانية، وانتقاله من مرحلة الوكالة الى مرحلة التفاعل المباشر.

ستعمل هذه السفارات لاحقاً على رصد وقراءة الحدود التي يريد أن يرسمها «حزب الله» داخل الدولة اللبنانية ومعانيها الفعلية وخلفياتها ومن ثمّ الحكم عليها إما باستمرار الحرب على السلوك السياسي للحزب، او بتشجيعه والسعي الى تعميمه داخل «الهلال الشيعي».

«حزب الله» وضع أولويات لمعركته الانتخابية يعمل على تحقيقها:

ـ الاولوية الاولى وهي بإقفال كل الحصة النيابية الشيعية في اطار التفاهم بينه وبين حركة «أمل» وتجنّب حصول أيّ خرق، وتقول التقديرات الانتخابية إنّ قيادة الحزب نجحت في تأمين هذه الاولوية بعدما عملت على معالجة ثغرتين: الأولى في دائرة بعلبك الهرمل، والثانية في دائرة كسروان ـ جبيل.

ـ الأولوية الثانية وهي بتأمين «الثلث النيابي المعطل»، أي 43 مقعداً بين الثنائي الشيعي والحلفاء المصنّفين من «عظام الرقبة» ووفق التقديرات فإنّ هذا الهدف على وشك التحقق.

ـ الاولوية الثالثة تتعلق بنسج سياسة ما بعد الانتخابات انطلاقاً من النتائج، وفي اطار مهمة حماية «ظهر المقاومة» وهذا الامر يتلاقى والنقلة النوعية التي سيعمل «حزب الله» على إجرائها.

وعلى رغم «التشوّش» الذي ظهر أخيراً حول انتخاب رئيس المجلس النيابي، إلّا انّ نجاح الحزب في أولويته الاولى يعطي ضماناً كاملاً في هذا الاطار للتجديد لبري، وربما هذا ما دفع تيار «المستقبل»، وعلى لسان الرئيس سعد الحريري الى إعلان تأييده بري منذ الآن. ذلك أنّ التحالف الوثيق القائم بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل كان قد أثار كثيراً من التساؤلات في هذا الاطار. تحالف بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة أيقظ بعض الهواجس التاريخية. لكنّ تشكيل الحكومة المقبلة يبقى مسألة غامضة.

صحيح أنّ «حزب الله» سيسعى الى فتح حوار في العمق بين بري وباسيل، لكنّ تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب وترسيم التوازنات الداخلية يخضع لحسابات دقيقة ومتأنّية. ففي الكواليس كلام عن تفاهم بين الحريري وباسيل على إبعاد حقيبة المال عن بري وفي حدٍّ أدنى عن إبعاد الوزير علي حسن خليل عنها.

وفي النتائج الانتخابية أحجام جديدة متوقعة ودخول واسع لشخصيات لا بد أن تتلاقى وتطالب بحصة وزارية. كذلك فإنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع الذي يتكّئ على التزام سعودي بعدم استفراده، وبالتالي عدم وضعه خارج الحكومة، يسعى الى حقائب نوعية انطلاقاً من حجم كتلته النيابية. هو اخطأ في التوقيت عندما كشف عن مطالبته بحقيبة الطاقة وعاد وحاول «تمييع» مطلبه لاكتشافه بأنّ ما أقدم عليه حصل في توقيت خاطئ ومزعج.

أما «حزب الله» فسيكون له للمرة الاولى ربما دور مباشر في اختيار الحقائب ودوزنة التوازنات الحكومية.

في السابق كان الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله يقول إنّ «مَن يريد أن ينتخبَنا للشأن الخدماتي «ما يعذّب حالو». اما اليوم فسيباشر «حزب الله» لعبَ دور سياسي كامل داخل الدولة وعلى اساس حماية البيئة الحاضنة له والتي تتعرّض للضغط. وهو ما يعني تأمين بيئة حاضنة وسليمة في وجه اقتصاد منهار ينخره الفساد. فمرحلة إيلاء العمل المقاوم على حساب قضايا الناس ومشكلاتهم انتهت واصبحت من الماضي، هكذا يقول مصدر بارز في «حزب الله»، أما الآن فالمرحلة ستكون مرحلة تزاوج وتكامل بين محاربة الفساد وحماية المقاومة.

ومن المنطقي أن يسعى «حزب الله» الى توسيع مساحة نفوذه داخل الحكومة لكنه سيعمل على جمع حلفائه واصدقائه ولن يفرّط بتحالفاته السياسية في إطار معركة الإصلاح، لا بل على العكس سيعمل على توسيع دائرة الاصدقاء.

لكنّ ذلك يطرح السؤال الذي ما برح يتردّد منذ أشهر حول مستقبل العلاقة مع باسيل الطامح لرئاسة الجمهورية، خصوصاً إثر عدد من الإشكالات والتناقضات الانتخابية والسياسية التي ظهرت أخيراً.

بخلاف الأجواء السائدة، خصوصاً عبر وسائل الإعلام، لا تتحدّث اوساط «حزب الله» عن خلافات جوهرية: «لم نختلف تحت أيّ عنوان مع رئيس الجمهورية».

قد لا يكون هذا الجواب كافياً، ذلك انّ خلافات ظهرت حول اكثر من ملف مع باسيل مثل بواخر الكهرباء واللجوء الى ديوان المحاسبة في التعيينات، والأهم الاختراق الانتخابي في دائرتين حساسيتين لـ»حزب الله»: كسروان ـ جبيل وبعلبك - الهرمل.

المحرّضون الذين على علاقة بين الطرفين اعتبروا انّ باسيل كان قادراً على عدم التعاون مع الحزب في جبيل إذا كانت لديه مشكلة انتخابية، لكنه كان قادراً على الاقل على عدم ترشيح احد عن المقعد الشيعي. وفي بعلبك لم يكن ملزماً الترشح على لائحة في وجه حزب الله» طالما انّ النتيجة لن تعطي مقعداً للتيار، بل ستزيد المخاطر والضغط على لائحة الحزب.

لكنّ «حزب الله» لن يأخذ بهذه التفاصيل، هو يريد توسيع دائرة علاقاته السياسية وحلفائه من جميع الطوائف فلا يُعقل أن يتجمّد في مكانه.

وخلال اللقاء الاخير بين السيد نصرالله وباسيل تمّ طرحُ كل هذه النقاط والتفاصيل المتعلقة بها وكان جواب باسيل «أنّ المشكلات الناجمة من القانون الجديد للانتخابات اضافة الى المشكلات الانتخابية الموجودة أصلاً تتطلّب اسلوباً انتخابياً مختلفاً عن الاسلوب السياسي، وبعد انتهاء الانتخابات سنعود الى خطابنا السياسي المعهود والمعروف».

كذلك وصل الى مسامع السيد نصرالله من قصر بعبدا ما مفاده: «دعونا نمرّر الانتخابات النيابية وكل ما حصل سنعيد ترميمه». وفي المقابل يتمسّك الحزب باعتماد سياسة استيعاب باسيل وهو ما ظهر واضحاً في الاطلالة الما قبل الاخيرة لنصرالله.