أضاف جبران باسيل محطته المسيحية الحدودية مطلع الأسبوع الحالي، الى مسلسل محطاته المتتالية التي أثارت التباسات وتسبّبت بإشكالات، وحملت الكثيرين على إحاطة المنحى الهجومي والتصعيدي الذي ينتهجه في اتّجاهاتٍ مختلفة ومتعددة، بعلامات استفهام حول سرّ هذا المنحى وأبعاده وأسبابه، والهدف الذي يرمي اليه من هذا التصعيد؟
 

مسيحيّو الحدود، كانوا بالامس القريب، على موعد مع جبران، لم يدخل الى منطقتهم من بابها كمنطقة يجمعها تاريخ واحد، ومصير واحد تتنفّس الهواء نفسه مع جيرانها «الشيعة»، الشركاء لمسيحيي رميش ودبل وعين ابل والقوزح وغيرها، في بيئة واحدة، يعيشون فيها معاً بأمن وإخاء واستقرار، وجعلوها معاً نموذجاً للعيش الواحد، وافضل واحسن واحة للأمان في لبنان، بل إنه دخل اليها من باب آخر، وبخطاب لم يألفه ابناءُ هذه المنطقة من قبل؛ خطابٌ تحريضي يزرع الشقاق في ما بينهم.

هذا هو لسان حال مسيحيي الحدود، استقبلوا ضيفهم الآتي من بعيد، انتظروا أن يسمعوا منه كلاماً جامعاً، ومؤكداً على جوّ الوئام السائد بينهم وبين شركائهم في هذه المنطقة، فإذا بهم يُخذَلون بكلام يستحضر الابتزاز والتهديد والضغط عليهم من قبل ابناء تلك المنطقة، ويتوعّدهم بإغلاق بابه في وجههم، ما لم يوجّهوا أصواتهم في انتخابات السادس من ايار وفق مشيئته.

قال جبران كلمته ومشى، مخلِّفاً في اجواء تلك المنطقة، شعوراً بالامتعاض والاستفزاز، عند مسيحيي الحدود قبل جيرانهم، وارخى جوّاً سيّئاً ونقاشاً اعتراضياً على ما سمّاها بعض الأهالي «محاولة زرع الشياطين في هذه الارض». ولعلّ الرد السريع لرئيس بلدية رميش فادي مخول والذي ينفي فيه كل ما ورد على لسان باسيل عن ضغط وتهديد لمسيحيي الحدود، خيرُ معبِّر عما خلّفه ذلك من استياء لديهم.

قال جبران كلمته ومشى، لكنّ مسيحيي الحدود مستفزّون، يشعرون بالإهانة، من محاولة إدخال بلداتهم في لعبة خطيرة، ومحاولة فصلها عن محيطها الملتصقة به، وجعلها وقوداً لمزاج سياسي حربي، يطلق النار في كل الاتّجاهات، دون تقدير لعواقب هذا المنحى وسلبياته.

قال كلمته ومشى، ومسيحيو الحدود يسألون: مَن يهدّد مَن؟ حتى إنّ شهادة نقض لهذا الاتّهام تأتي على لسان الناشطين في «التيار الوطني الحر» في تلك المنطقة، شهادة تُخالف رئيسهم وكلامه: «ما صدر عنه يجافي الواقع وكلامه غريب عن جوّ المنطقة». حتى إنّ المتعصّبين لباسيل والباصمين على كل ما يقوله، لم يتمكّنوا من رفده ولو بدليل واحد، او حتى بإشاعة، عن حالة ابتزاز أو تهديد أو تضييق حصل بحق أيٍّ من مسيحيي الحدود.

أكثر من ذلك، لم يعد خافياً أنّ كلام باسيل عن التهديد اصاب ناشطي التيار هناك بإحراج لم يتمنّوه، هم ابناء المنطقة وليسوا طارئين عليها ولا غريبين عن المناخ السائد فيها، ولذلك بادر البعض منهم الى الاتّصال «بالجيران»، واعتذروا عمّا بدر من شخص يبدو أنه لا يعرف هذه المنطقة جيداً، ولا طبيعة اهلها، ولا الروابط التي تجمع في ما بينهم، أهم ما قالوه « كنا وما زلنا وسنبقى مع بيئتنا، ولن نخرج من بيئتنا على بيئتنا».

لم يكن خافياً على مسيحيي الحدود أنّ في خلفية كلام جبران استهدافاً مباشراً لحركة «أمل» وإن كان لم يسمِّها، وطبعاً حيّد «حليف التفاهم» أي «حزب الله»، ولكن ربما فاته أنّ بيئة «أمل» وبيئة «حزب الله» هما بيئة واحدة وموحّدة مع البيئة المسيحية، ليس في تعايش، بل في عيش واحد. صاغته شراكتهما في المعاناة، خلال الاجتياح الإسرائيلي الأول في العام 1978، والاجتياح الثاني عام 1982 وطيلة فترة الاحتلال الاسرائيلي لمنطقة الشريط الحدودي، وتعمّقت هذه الشراكة وتجذّرت أكثر أقلّه منذ تحرير العام 2000.

وربما فاته ايضاً، أنّ منطقة مسيحيي الحدود، هي الأدرى بها، والأعلم بمصالحها ومصلحتها، وأنّ عمقها بنت جبيل اقرب الجيران اليها و»جارك القريب ولا خيّك البعيد» ، وخدمات نوابها تشهد، وأنّ المصيلح على مرمى حجر. ولطالما كان بابها مفتوحاً على رعايتها واحتضانها دون تفريق او تمييز بين بلدة شيعية وبلدة مسيحية، لا بل الأولويّة الدائمة هي جعل تلك المناطق تحديداً «مزهرية الجنوب»، من جزين - قبل أن يفاخر احدهم بـ«تحريرها» من نبيه بري - الى مغدوشة وصولاً الى القرى المسيحية الحدودية.

أوحى باسيل بكلامه، وكأنّ المرجعية السياسية لتلك المنطقة الجنوبية، هي التي تهمّش مسيحيي الحدود وتحرمهم من التمثيل بمقعد في مجلس النواب. ولكن ما سماه بعض ابناء تلك المنطقة بالبكاء الانتخابي على تهميش اكثر من سبعين ألف مسيحي فيها، وعدم تخصيصهم بمقعد، لم يكن لا في زمانه ولا في مكانه الصحيحين، بل لم يكن مقنعاً لمَن اعتبرهم «مهمّشين»، ذلك أنّ ذرف الدموع حالياً، لا يمحو من ذاكرة ابناء هذه المنطقة، ولا من ذاكرة سائر اللبنانيين، ما حصل خلال إعداد القانون الانتخابي، يومها تجاهلوا مسيحيي الحدود بالكامل وكأن لا وجود لهم، ولم تبدر أيُّ محاولة، وخصوصاً من قبل «الحريصين الجدد» عليها، لإنصافهم بمقعد مستحدَث أو منقول من احدى الدوائر، بل إنّ الجهد كان منصبّاً من قبل باسيل تحديداً، على نقل المقعد الماروني من طرابلس الى البترون دون غيرها من الدوائر. في حين أنّ تخصيصهم بمقعد كان وما يزال مطلباً دائماً للرئيس نبيه بري، ومحاضر الجلسات العامة لمجلس النواب تسجّل المطالبات المتتالية من نواب المنطقة الشيعة لإدخال هذه الشريحة المهملة في خانة التمثيل.

أشعَر خطاب باسيل مسيحيي الحدود، بهواء اصفر يهبّ على المناخ السائد في منطقتهم، ولذلك رفضوا تعكيره بمحاولة دفعهم الى التنكّر لمحيطهم، وبزرع شياطين التفرقة فيه.

ولأنّ الصورة شديدة الوضوح امامهم، ولأن لا مرشح مسيحياً لهم أصلاً من منطقتهم، ولأن للدائرة الانتخابية التي ينتمون اليها خصوصيتها، واكثريتها الشيعية المقرِّرة فيها والتي يبدو أنّ نتيجة الدائرة محسومة من الآن، سارعوا الى رفض أيّ محاولة لنسف هذا المناخ لحسابات انتخابية أو كيدية.

ولم يتأخّروا في الاستنتاج بأنّ التحشيد الذي قام به جبران، يرمي الى ادخال مسيحيي الحدود في معركة غير معركتهم، والقتال بهم خدمة لغيرهم. وهذا ما يرفضونه، وصاروا على يقين بأنّ زيارة باسيل هي زيارة انتخابية لخدمة تيار المستقبل وليس التيار الوطني الحر، الاساس فيها، حثّ مسيحيي الحدود على الاقتراع للائحة المواجهة لـ«الثنائي الشيعي»، لتمكينها من بلوغ عتبة الحاصل بما يؤدّي الى فوز مرشح تيار المستقبل في شبعا.

يبقى أنّ مسلسل الأخطاء يتراكم، ويزرع لدى الناس ترسّبات سلبية وتداعيات سياسية وغير سياسية، ويقال إنّ ما بعد الانتخابات ليس كما قبلها، فهل ثمّة مَن يضمن أو يؤكد أنّ إزالة هذه الترسبات ستكون سهلة بعد 6 أيار، وماذا لو كانت ازالتها مستحيلة ومستعصية، فهل ثمّة مَن يقدّر العواقب والتبعات؟