هل هذا يعني أن إمكانية التغيير والتحرر من العصبيات بات من الماضي؟
 

شكّل الإستبعاد من المشاركة جوهر العملية السياسية في بعلبك الهرمل، على مدى أكثر من ربع القرن المنصرم من الحياة السياسية في المنطقة بشكل خاص والبلد بشكل عام، فمن خلال استبعاد المواطنين والقوى السياسية المعارضة من المساهمة في العملية السياسية وتفاعلاتها وآليات تمثيلها، افتقد المجتمع في البقاع الشمالي أشكال التعبير السياسي المعلن عن المعارضة ضمن مؤسسات الدولة التي يحتكرها طرف واحد مستبعداً القوى الأخرى. وبحكم هذا الاستبعاد شكل الاحتقان السياسي البديل عن المشاركة السياسية، والذي أخذ في بعض الحالات شكلاً للتصريحات العلنية رداً على الإلغاء السياسي للمعارضة.
فالدولة التي يجب ان تكون كطرف مهيمن على العملية السياسية والاقتصادية في البلد بوصفها «المؤسسة الحاضنة»، سمحت في ظل غياب المشاركة السياسية، وفي ظل غياب رقابة المجتمع المدني على أداء السلطة السياسية ومحاسبتها ومعاقبتها في انتخابات نزيهة، بانتشار الفساد الذي استشرى في المنطقة بشكل خاص والبلد بشكل عام، لدرجة أن محاربته أصبحت واحداً من الأحلام المستحيلة التحقيق في ظل دولة فاقدة لسيادتها ذاتها، وقد عمل هذا الفساد الذي استشرى كفساد هيكلي على تكوين شرائح اجتماعية، حولت الفساد إلى مؤسسات لها آليات عمل متماسكة وتقاليد راسخة، وعلى رأس هذه الآليات إغناء وإفقار المواطنين، وفق الولاء للقوى المهيمنة.

إقرأ أيضًا: الأمل الآن وليس ببعيد
وأصل الفساد يكمن في تحويل مؤسسات الدولة التي يفترض أنها تؤدي خدمة عامة للجميع إلى خدمة مصالح النخب الموجودة في السلطة والى احتكار شخصي، بذلك يتحول المنصب السياسي إلى وسيلة لخدمة المصالح الشخصية، بدل أن يكون وسيلة لأداء خدمة عامة.
في هذا السياق افتقدت العملية السياسية قواعدها المحددة للتفاعل بين السلطة والمجتمع، بين الاقتصاد والسياسية. فعدم خضوع العملية السياسية لقواعد محددة، أو عدم الرجوع إليها لإصدار القرارات السياسية المتعلقة بمصائر الدولة والمواطنين، تركا العملية السياسية من دون آلية واضحة يتم اتباعها لتحقيق المشاركة السياسية الفعلية، باعتبار المواطن مرجعية الدولة عبر المشاركة السياسية، لكن واقع الحال في بلدنا أن الاستبداد الذي سيطر على كل العملية السياسية والى حد كبير على كل العملية الاقتصادية، أخضعها لقواعد وشروط اعتباطية، وأول شروط هذه العملية استبعاد الآخرين من المشاركة في صنع القرار والوسيلة الأسهل لممارسها احتكار السلطة، الاحتكار المطلق للقرار السياسي وتحويل القوى السياسية الأخرى من شركاء في العملية السياسية إلى خدم للمستبد واعتماد آليات الابعاد والزبائنية وسيلة وحيدة لحماية امتيازات الاحتكار.
بذلك، تم تدمير العملية السياسية بشكل نهائي وجعلها لاغية من حيث المبدأ، فالصورة التي أسفر عنها الوضع في العديد من المناطق، هي تدمير الحياة السياسية وهذا بالاساس يعود لمرحلة الوصاية التي عملت طويلا على ضرب مرتكزات الحياة السياسية، وهناك الكثير من الحالات التي يمكننا الحديث عنها.

إقرأ أيضًا: ليبقى الإعتدال سمة المرحلة في بعلبك الهرمل
وفر القانون الانتخابي الحالي رغم الثغرات التي تشوبه فرصة مواتية لتجاوز الاحتقانات القائمة في البلد، والامل بامكانية إنتاج حياة سياسية جديدة قد بات في متناول اليد، فقد أصبحت عملية التغيير ضرورية، ولا يمكن أن نسير إلى الأمام من دونها، وكان القانون يشكل الشرط الضروري لعملية الانتقال والتغيير، لكن المسار لم ولن يكون سلساً، فقد تبين أن حجم الخراب والاختراق السلطوي للبنية المجتمعية أكبر مما كان متصوراً، ما يعقد العملية ويدخلها في دائرة المراوحة، ما يجعل عملية التغيير في المنطقة وفي غيرها من المناطق صعباً ومعقداً.
لقد عملت قوى الامر الواقع على تكريس حالة الاستتباع الذي اعتمدته طوال الفترة الماضية على تصاعد حالات الاحتجاج، باضطرار الحركات الاحتجاجية للقانون من أجل مواجهة القوى المهيمنة على مقدرات المنطقة، ما أدخل الأوضاع في هذه المنطقة وغيرها في حالة من التفكيك والتهميش المجتمعي، وترافقت مع أوضاع اقتصادية واجتماعية يائسة تضغط بقسوة على قطاعات اجتماعية تتسع باستمرار. كل ذلك شكل بيئة ملائمة للتحرك وقد ساهمت القوى المهيمنة نفسها في دعم التحرك بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، وذلك من خلال حملة التجييش التي بدأت باكراً بانه يوجد مرشحون يمثلون منظمات تكفيرية إرهابية بالاضافة إلى إعادة إستحضار مرحلة الحرب الأهلية، لتصوير هذه القوى بوصفها البديل الوحيد عنها، ولتقول إنها، كقوى مهيمنة، هي أهون الشرور لأن بديلها هو (القوى الإرهابية)، وأن التغيير لا وجود له، وليس هناك حركات شعبية لها مطالب سياسية تتمحور حول قضايا الحرية والانماء.
هل هذا يعني أن إمكانية التغيير والتحرر من العصبيات بات من الماضي؟
بالتأكيد لا، فالأوضاع الجديدة على صعوبتها تؤكد أن الحرية والتغيير والتحرر هي الطريق الوحيد الذي يمنح الناس فرصة صناعة مستقبلها، وكل خيار آخر يذهب بها إلى ماضٍ أسود هو آخر ما تحتاجه المنطقة.