يخطىء من يظّن أن الحرب المسماة "أهلية" قد أنتهت ودفنت إلى غير رجعة، وهي التي بدأت يوم أحد في 13 نيسان من العام 1970، وأُسكتت مدافعها في 5 تشرين الثاني من العام 1989، أي بعد خمسة عشر عامًا على إندلاعها، حيث توافق اللبنانيون على وضع حدّ للتقاتل الذي وصف بأنه "عبثي، وأدّى إلى مئات القتلى والجرحى من كل الأطراف التي شاركت في الحرب، وتركت بصمات لا تزال مفاعيلها حاضرة على رغم إنقضاء 43 سنة على بدئها.

 

فالحرب بمعناها المادي والحصري إنتهت، وهذا ما لا يقبل الجدل، ولكن الأسباب التي أدّت إلى إندلاعها لا تزال تفعل فعلها، وهي حاضرة في النفوس، إذ يكفي مشاهدة حلقة حوارية بين متخاصمين في السياسة حتى يتبيّن للمشاهد هذا الحجم المخيف من كمية الحقد الدفين، وذلك بفعل الترسبات التي لا تزال تؤثّر سلبًا على المقاربات السياسية، إذ لا يزال اللبنانيون أسرى إيديولوجيات متباعدة، ولا يزالون بعد 43 سنة متمترسين وراء شعارات فئوية وطائفية بعيدة كل البعد عن الوحدة الحقيقية، ولا تزال كل فئة قابعة في خنادق التقوقع، رافضة الخروج منها إلى رحاب المواطنة الحقيقية والإنتماء الواحد إلى وطن موحدّة شعاراته وخياراته وتأثيراته وأهواؤه وميوله.

 

بعد 43 سنة لا يزال اللبنانيون غير متفقين على هوية واحدة لوطن واحد، وغير متوافقين على رؤية مشتركة لما يُمكن أن يكون عليه مستقبل هذا الوطن، الذي تحاول كل فئة منهم رسم ملامحه وفق ما تمليه عليها تطلعاتها الفردية والآحادية وإرتباطاتها الخارجية المتناقضة مع توجهات الآخرين الذين لهم هم أيضًا نظرة مختلفة عما يُمكن أن تكون عليه صورة هذا الوطن.

 

وعلى رغم إتفاق الجميع نظريًا على أن الطائفية هي علّة العلل وأنها مكمن الداء، وعلى رغم ورود وجوب إلغائها في وثيقة الطائف، فإن تأصلها في النفوس يزداد يومًا بعد يوم من دون أن نجد مبادرات جدّية لإستئصالها من جذورها، وهي تحضر بقوة في كل مرّة تُطرح فيها المسائل الوطنية الكبرى. وبدلًا من أن تكون الغلبة للمواطنة نرى إنحيازًا فطريًا من جانب كل فئة لمزيد من التقوقع والإنغلاق والهروب إلى الأمام من المواجهات المباشرة، وذلك من خلال تبادل التهم التي لا تخلو مفرداتها من تعابير تخوينية، ما يؤدي إلى مزيد من الإنعزال ومزيد من تنامي الشعور بالغبن المترافق مع شعارات تنمّي ما في النفوس من نقمة على الدولة ومؤسساتها.

 

وعلى رغم الجهود التي بذلت على طاولات الحوار، سواء تلك التي عقدت في بعبدا أو في عين التينة، وقبلها في جنيف ولوزان إبان الحرب، لم يستطع اللبنانيون الإتفاق على قواسم مشتركة لتوحيد الرؤى تكون بداية لخروجهم من شرنقة الطائفية ورسم معالم موحدّة لمستقبل عيشهم الواحد، من دون أن يعني ذلك إلغاء خصوصية كل فئة، وهي المفترض أن تكون مصدر غنىً وليس سببًا للفرقة والإنقسام.

 

فإذا لم يجلس اللبنانيون، ومرّة أخيرة، على طاولة واحدة، وتطرح كل فئة هواجسها بشفافية ووضوح، وتُناقش نقاط الإختلاف كما نقاط الإتفاق بصراحة مطلقة، وصياغة رؤية واحدة تمّكنهم من التكلم بلغة مشتركة، فإن أسباب الحرب التي عصفت بهم في العام 1975 ستبقى متأججة كالجمر تحت الرماد، وسيبقى المستقبل محفوفًا بالمخاطر، وستبقى الوحدة الوطنية مرهونة بالتأثيرات الخارجية، وقد تكون سياسة النأي بالنفس مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعدما أدخلت الضربات الأميركية والفرنسية والبريطانية سوريا من جديد في لعبة المحاور الدولية.

 

 

اندريه قصاص