كلما سقط لبنان في هوّة سحيقة، امتدت أيادي الدول الشقيقة والصديقة لرفعه وإنقاذه في اللحظة الاخيرة، وهذا ما حصل تماما في مؤتمر باريس "سادر" الاقتصادي يوم الجمعة الماضي، والذي فاقت خلاله تدفقات الاموال العربية والغربية الى لبنان 12 مليار دولار، معظمها قروض على مدى بين ثلاث وست سنوات بفوائد متدنية وشروط صارمة للاصلاح، وقليلها هبات بقيمة 860 مليون دولار لكن لدعم القروض.
واذا كان المؤتمر بوقائعه ونتائجه قد أمّن للبنان ما وصفه رئيس المجلس نبيه بري "الحضن العالمي"، فإنه اضاف: "ويبقى على اللبنانيين التنفيذ. فالعبرة بالتنفيذ". والتنفيذ هنا حسب مصادر رسمية واقتصادية مقرون حكما برزمة الاصلاحات البنيوية في الادارة والمالية العامة وادارة الدين العام وفي قطاع الكهرباء اساسا، لتحقيق خفض في نسبة العجز المالي بقيمة 5 في المائة.
وهذه الشروط مرتبطة بحصول توافق سياسي داخلي كامل على كل الرؤى الاقتصادية والمالية ومشاريع الاستثمار التي بنيت عليها تفاصيل المؤتمر، واذا كان الجانب السياسي في البيان الختامي للمؤتمر قد انحصر في موضوع "تعزيز وتطبيق النأي بالنفس عن ازمات المنطقة"، وهو امر متفق عليه داخلياً، فإن الخلاف واقع اصلا بين القوى السياسية ومكونات الحكومة حول الرؤية لكيفية مقاربة ومعالجة الازمات المالية والاقتصادية البنيوية والادارية التي يعيشها لبنان.
وثمة اسئلة طرحتها اوساط اقتصادية وخبراء بارزين،وحتى بعض القوى السياسية مثل الامين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصر الله امس الاول، والدكتور سمير جعجع قبل ايام في حديثه التلفزيوني (للمستقبل بالتحديد)، تتركزعلى خطورة زيادة الدين العام من 80 مليار دولار الى اقل بقليل من مائة مليار، وتتركز على قدرة لبنان الفعلية على تنفيذ المشاريع الاستثمارية بشفافية ودقة تؤمن الانتاجية المطلوبة، وعلى الايفاء بالديون التي ستترتب عن المؤتمر ولوكانت بفوائد بسيطة ومتدنية. وانه من دون إصلاحات حقيقة جوهرية في بنية الادارة والاقتصاد، لا مجال للخلاص من عبء الدين العام الذي يتنامى سنويا وبالتالي الخلاص من اثره الاقتصادي والمالي السلبي. ما يعني انه اذا كانت الثقة الدولية لازالت متوافرة بلبنان، فإن الثقة الداخلية لا زالت موضوع شك، خاصة في مجال مكافحة الفساد وتعزيز دور وسلطة واستقلالية القضاء وهيئات الرقابة، والتي هي سلطات منتخبة او معينة من قبل الطقم السياسي الذي يدير البلد وتخضع للمحاصصة السياسية والطائفية.
بمعنى اخر، تعتقد الاوساط السياسية والاقتصادية ان السياسة الاقتصادية والمالية التي اتبعت منذ بداية التسعينيات ورتّبت كل هذا الدين العام والعجز المالي وتراجع المشاريع الانتاجية وضرب الصناعة والزراعة، باتت بحاجة الى اعادة نظر جذرية بالتخلي عن الاقتصاد الريعي والخدماتي لمصلحة تعزيز الاقتصاد الانتاجي، اي تعزيز انتاجية قطاعي الصناعة والزراعة بشكل اساسي ووقف الاحتكار، اضافة الى امر مهم وهو مكافحة الفساد والمفسدين في الادارات الرسمية، وايضا في القطاع الخاص، حيث لا يقل الفساد فيه عن القطاع العام، ويظهر ذلك بالصفقات والسمسرات الكبيرة التي تجري بين مسؤولين في الدولة وبين اصحاب رؤوس الاموال والشركات والمحظيين والمحسوبين على هذا الفريق السياسي او ذاك.