هل تحوّل البرابرة إلى أدوادم.. وهل إنتهت الجريمة حتى نرفض سجناً حديثاً؟
 
يعلم الجميعُ إفتراقَنا عن الوزير نهاد المشنوق منذ أزمة ملف الدكتور بسام الطراس ، وما تخلّلها من إلتباسات وتحوّلات ، ومعلوم أيضاً إفتراقنا عن تيار المستقبل لأسباب سياسية أدّت إلى صدامٍ ثم سجنٍ بعد دعوى إفتراء أسقطها القضاء بعد الزعم بإساءتنا لرئيس الجمهورية وللمملكة العربية السعودية..
 
لذلك ، 
 
أكتب اليوم من دون مفاعيل سياسية أو إنتخابية لما سيأتي من سطور ، إنما وجدتُ أن من الواجب النقاش حول بعض النقاط التي أثارها الوزير المشنوق ولاقت من مجمل خصومه حملاتٍ مضادة ، معظمُها ناتج عن الخصومة الإنتخابية والسياسية وربما الشخصية ، في حين أن التدقيق بها يؤدي إلى خلاصاتٍ مختلفة عن ما ذهب إليه الحاملون على المشنوق.
 
 
 
إشكالية "الأوباش"
 
 
إنتشر على مواقع التواصل الإجتماعي فيديو لوزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، خلال لقاء إنتخابي، يصف فيه منافسي تيار "المستقبل" في دائرة بيروت الثانية بـ"الأوباش"، قائلاً: "45 الف صوت بلوك واحد و"الاحباش" وفوقهم "شوية ابوباش" بيطلعو 45 الف".
 
 
وفور إنتشار كلام المشنوق ، إنطلقت حملة مضادة إتهمته بالإعتداء على كرامة خصومه وذهب البعض إلى رفع دعوى ضده بزعم أنه أهان شريحة من الناخبين..
 
والحقيقة أن كل هذا الإعتراض جاء من فئتين:
 
 
ــ الفئة الأولى: هم الخصوم الإنتخابيون من معسكر "حزب الله" الذين ذهبوا إلى حد الإدعاء أمام القضاء ، وهؤلاء تحركوا على قاعدة "من تحته مسلة.." ، فهم يرفضون إعادة التذكير بطبيعتهم الفعلية عندما ينفلتون ضد خصومهم وشركائهم المخالفين لهم في الوطن..
إدعاء هؤلاء محاولة وقحة لمنع تذكير أهل بيروت وعموم الشرفاء في لبنان بوقائع مثل 7 أيار 2008 التي شنها "حزب الله" مع "أوباشه" من بقايا الحزب القومي المتشظي ومدعي الناصرية ، وطبعا "الأحباش" الذين لن تُمحى إلتباسات تورطهم في إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ، ولن تغيب عن اللبنانيين مظاهرة سواطيرهم الشهيرة ضد غبطة البطريرك مانصرالله بطرس صفير ذات مساء عند عودته من كندا ذات مساء من شهر نيسان عام 2001 ، وها هم اليوم يحاولون العودة إلى الحياة السياسية على متن لوائح "حزب الله" ونظام بشار الأسد..
 
والسؤال هنا: هل يستحقّ هؤلاء صفة الأوباش أم لا؟
 
هل ما فعله زعران سرايا الممانعة من إحراق قناة الجديد عمل أوباش أم عملٌ حضاري؟
 
هل الإشتباك الشهير بين "حزب الله" و"الأحباش" وما تركه من خسائر ناجمة عن إستعمال غير مشروع للسلاح المتوسط في شوارع العاصمة ، عمل أوباش أم فعلٌ حضاريّ يستحقّ الفخر والإعتزاز؟!
 
 
ــ الفئة الثانية من الناقدين هم بعضُ شرائح المجتمع المدني الذين يخاصمون المشنوق إنتخابياً وسياسياً ، ومنهم من سبق أن إستخدموا في إحتجاجاتهم ألفاظاً ومصطلحات ، يصبح وصفُ "الأوباش" مقابلها في غاية الأدب واللياقة!!
 
واللافت أن كثيرين من هؤلاء "المدنيين" منتمون أو ملتحقون بتيارات وأحزاب مثل الحزب القومي السوري الإجتماعي ، أو بأحد تشظياته ، لأنه لم يعد معروفاً رأسه من عقبه ، هو وحزب البعث السوري..
 
 
إشكالية السجن المركزي في الشمال
 
 
الإشكالية الثانية التي أثارها المشنوق هي إعلانه عن سجنٍ مركزي في الشمال ، وهو إعلان فتح عليه أبواب إنتقادات واسعة ، أهمها أن الدولة لم تذكر الشمال بالتنمية وإنما بالسجون ، وأن المطلوب هو إغلاق السجون لا تدشينها..
 
في الشكل ، قد يكون هذا الكلام صحيحاً ، لكنه في الوقت نفسه كلام سطحي لا يلامس الواقع ويتجاهل الحقيقة.
 
 
 
فمن حيث الشكل ، الوزير المشنوق هو وزير الداخلية ، أي أنه مضطر للعمل في نطاق وزارته ، ولا يمكن أن نتصوّر أنه سيعلن عن إفتتاح مدارس أو سدود أو جسور.. ولعل هذا من سلبيات توليه هذه الوزارة.
 
ومن حيث المضمون ، لا يمكن الإستنتاج بأن الشمال لا يحتاج سجناً.
فالجريمة والإشكاليات القانونية والتوقيف ، على خلفيات متعدّدة سيستمرّ ، لأنه سيبقى هناك من سيخالف ويرتكب الجرائم..
 
 
ومع التأكيد على وجود المظلومية في الملف الإسلامي ووقوع القضاء العسكري في فخّ التدخلات السياسية ، مع وجود نماذج حيّة لهذه التدخلات ، فإن مسألة بناء السجون وخضوعها للمعايير الحقوقية والإنسانية ، هي مسألة ضرورية وملحّة ، لأنها منفصلة تماماً عن إشكالية العدالة المعطلة أو المستهدَفة أو الضائعة تحت وطأة الصراع السياسي في لبنان.
 
 
 
أما وجود سجنٍ مركزي في الشمال ، فهو ضرورة لأسبابٍ كثيرة ، أهمها:
 
ــ وجود أعدادٍ كبيرة من الموقوفين والسجناء من أبناء طرابلس والشمال في سجن رومية ، مع ما يعنيه ذلك من مشقة وعناء وتكاليف تنوء بها كواهل أهلنا ، الذين يعانون أساساً ضيق العيش وقلّة الموارد..
 
 
 
ــ أن السجن ببنائه الجديد سيكون مستجيباً لمعايير إنسانية أساسية ، هي غير موجودة في السجون اللبنانية القائمة ، لأن الدهر أكل عليها وشرب ، وباتت لا تصلح للحياة الإنسانية.
 
ورغم كل الإنتقادات للوزير المشنوق ، إلا أنه ينبغي افقرار أنه منذ تاريخ إنكشاف كارثة افلام التعذيب في سجن رومية ، فإن تغييراً جذرياً قد حدث.
 
فالإدارة التي كانت لا تتفاعل مع محاولات الوزير المشنوق تحسين الظروف القائمة بما هو متاح ، وخاصة على المستوى الصحي ، والتي كانت ثقافتها تعتمد على "عقيدة" "أبو كلبشة" ، أحيلت إلى التحقيق ، ولأول مرة تمّ تحويل ما يزيد عن 60 عنصراً أمنياً للمحاكمة وأتى الوزير المشنوق بإدارة جديدة ، ضباطاً وعناصر ، وأقام آلية تواصل مع السجناء ، حالت حتى الآن دون وقوع صدامات أو إشكالات ذات قيمة ، وإستحدث مكتباً لحقوق الإنسان في سجن رومية ، مُحدثاً تحسيناتٍ يقرّ بها الجميع.
 
 
إضطراب ميزان العدالة وتردي أوضاع السجون: أزمة متلازمة
 
 
الإشكالية الكبرى التي نعاني منها هي إضطراب ميزان العدالة وسوء وتدهور أوضاع السجون ، وهما يلتقيان في مكان واحد ، رغم أن مصدرهما مختلف ، والحلول بشأنهما أيضاً مختلفة.
 
 
فتحسين أوضاع السجون ضرورةٌ آنية ومستقبلية ، حتى يمكن التفكير في البدء بتحويل السجن إلى محطة إصلاح وتأهيل في حياة من يقعون في شباك الجريمة ، وهذا أمرٌ لا يمكن التفكير فيه جدياً ، طالما السجون وأماكن التوقيف في هذه الحال من التردي.
هذا فضلاً عن تحسين ظروف أهل السجين ، وتخفيف المعاناة عنهم في الإنتقال والمصاريف اليومية..
 
 
 
أما قضية العدالة فحلُّها في مكانٍ آخر.. وهنا نطالب نهاد المشنوق السياسي والنائب أن يكون صوتـُه أعلى في قضية العدالة ، وتحديداً في ما يخص المحكمة العسكرية وما يجري فيها ، وإعادة المطالبة بالوقف العملي لوقائق الإتصال وإنهاء هذا التمرّد الصامت والمصموت عنه ، على إرادة مجلس الوزراء الذي أصدر قراراً إعتبر هذه الوثائق ووثائق الإخضاع أيضاً غير قانونية.. مع الإقرار بأن الوزير المشنوق كان رأس الحربة في معركة نزع الغطاء القانون عن وثائق الإتصال والإخضاع في مجلس الوزراء ، وكان على تنسيق مع مجمل الهيئات الإنسانية والإسلامية في هذا الشأن.
 
 
أخيراً ، 
 
يحقّ للجميع توجيه الإنتقاد وخاصة في الأجواء الإنتخابية التنافسية ، ولكن ما لا يجب الإنسياق إليه ، هو إنتهاج سلوك "لحس المبرد" ، فسوء أوضاعنا وحجم مآسينا ، بات يدفع بعضنا إلى الإضرار بالذات أو قطع الطريق على أنفسنا ، بسبب ضيق الأفق وحجم الضغوط الهائلة التي نتعرّض لها.
 
فالدفاع عن "الأوباش" نكاية بنهاد المشنوق سقطة غير مفهومة ، وإدعاء الأخلاق السياسية لهذه الدرجة يذكرنا بـ"إيتكيت" "أكل الموز" بالشوكة والسكين على طريقة إحدى المتخصصات على بعض الشاشات.. والأولى بمن يعارض المشنوق أن يمتلك الجرأة الأدبية على إقرار نقاط مشتركة لتقوية الموقف ، حتى لو كان ثمة معركة إنتخابية ، والتركيز على نقاط القوة في البرنامج الإنتخابي وإبداء القدرة على الإستيعاب والتعاون في كل الظروف والأحوال.
 
كما أن رفض فكرة سجنٍ مركزي حديث في الشمال ، من شأنه إذا تحوّل إلى موقفٍ سياسي ، أن يؤثـّر على هذا المشروع الضرورة ، رغم رجائنا أن تتحوّل السجون إلى مدارس ، وأن يتحوّل الأوباش إلى أدوادم.. لكن حتى ذلك الحين تبقى الحاجة لتوصيف المعتدين والبرابرة بما هم عليه ، وتبقى الحاجة لسجن حديث في الشمال ملحّة ، فربما كثرٌ ممن إعترضوا لم يذوقوا مشقات أهالي السجناء ولا يعرفون مرارتها.