ثمة خيط رفيع يربط بين التسامح العربي والدولي مع النظام السوري، الذي يرتكب هذه الايام أبشع المذابح الكيماوية، وبين التساهل العربي والدولي أيضا مع النظام اللبناني، الذي خرج من مؤتمر سيدر الاخير في باريس وغيره من مؤتمرات أصدقاء لبنان، بتفويض جديد لمواصلة عملية تدمير الدولة اللبنانية وتقويض إقتصادها وتهديد عملتها..وتعريض أمنها الاجتماعي للخطر .

هذا الخيط يثبت أن بقاء النظام السوري بشكله الحالي وسلوكه الراهن بات محسوماً، كما أن دوام النظام اللبناني بأدائه الهش وتركيبته العجيبة أصبح خارج المحاسبة والمراقبة، بل ربما صار خارج دائرة الانظمة العربية المطالبة بالاصلاح والتطوير. والحجة العربية والدولية التي تنسحب على النظامين وتمدهما بأسباب الصمود، وأدوات التصدي، هي أنه ليس لهما بديل سوى الفراغ والفوضى اللذين يمكن أن يشكلا تهديداً إضافياً لمحيطهما، ولجوارهما الأوروبي، وربما العالم أجمع.

   التعامل مع النظامين يتم بطبيعة الحال بناء على سياسات واجتهادات وتوصيات مختلفة، مبينة على الاختلاف الجذري في طبيعة الصراع الحالي داخل البلدين. ولعل هذا الامر كان معكوساً في القرن الماضي، عندما كان لبنان مشتعلاً بحروبه الاهلية المتلاحقة، وهو ما كانت سوريا تحصد فوائده ومكاسبه السياسية والاقتصادية وتحقق أعلى درجة من الإستقرار الداخلي في تاريخها الحديث.

حصيلة هذا التعامل لن تظهر في سوريا في المستقبل المنظور ، لكنها في لبنان يمكن ان تكون فورية، بمعنى ان نتائج التغطية السياسية والمالية للإستقرار اللبناني لن تتأخر عن موعد إفتتاح أول ايام العمل الثلاثاء المقبل، عندما تنفتح بورصة السياسة على الكلام الجدي حول مؤتمر سيدر على سبيل المثال، وعندما تتحرك عجلة الاقتصاد المجمدة منذ نحو سبع سنوات.

حتى الان ما زال تقييم ذلك المؤتمر مهجوساً بالقروض والديون، وهي هاجس منطقي فعلاً. لكن يغيب عن السجال المحلي أن لبنان الذي يقف على حافة الانهيار ، وعلى عتبة إعلانه دولة فاشلة غير قابلة للحياة، ما زال يجد من يوافق على إدانته، بشروط ميسرة نسبياً ، ومن يؤمن بأن لبنان يستطيع يوماً ما أن يسدد هذه الديون.. وهو أمر لم يتوافر لبلد أكبر وأغنى وأهم منه، مثل العراق الذي لم يستطع ان يحصل على قروض عربية وأجنبية تصل الى 11 مليار دولار في المؤتمر الذي إنعقد في بغداد الشهر الماضي.

هذه "الثقة" المفترضة بلبنان ليست نتاج الاطمئنان الى عبقرية المسؤولين اللبنانيين، لا سيما رؤسائهم الثلاثة الكبار، او الى نبوغ السياسيين اللبنانيين، لاسيما المؤهلين للفوز في الانتخابات النيابية المقبلة. ثم قرار عربي ودولي عبر عنه مؤتمر سيدر تحديداً: لا أحد يحتاج الى إضطراب إضافي في العالم العربي، وخاصة في لبنان، ذي التجربة العريقة في الحروب الاهلية، الملهمة للكثير من الصراعات الاقليمية.

لكن الترجمة الفعلية لهذا القرار هي أن المؤتمر لا يصوت فقط لمصلحة إستقرار لبنان، بقدر ما يصوت لمصلحة القادة اللبنانيين المسؤولين بالتحديد عن عدم إستقراره. وهي مفارقة غريبة، حسب المعايير الغربية التي يفترض ان تحرم على دول الغرب التدخل في شؤون العملية السياسية( الانتخابية) في اي بلد آخر.. والتي يعتقد أنها كان يمكن ان تؤجل مؤتمر سيدر الى ما بعد الانتخابات او حتى الى ما بعد تشكيل الحكومة المقبلة، إن لم يكن الى ما بعد إعلان برنامج الاصلاح الخاص بتلك الحكومة.

وهذا الكلام لا ينم عن حساسية خاصة تجاه التدخل الخارجي في الشأن اللبناني، الذي كان ولا يزال من طبائع الشؤون والشجون اللبنانية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، بل ربما كان العكس هو الصحيح، بمعنى ان المذهل في مؤتمر سيدر هو أنه إلتزم بقروض ضخمة، من دون تدخل في أوجه إنفاقها أولا، أي أنه وعد بالاموال من دون شروط مسبقة، بل ومن دون وعود صادقة حتى من الطبقة السياسية اللبنانية التي وفر لها الغطاء السياسي والمالي اللازم..لخوض معركتها الانتخابية بنجاح، ولمتابعة نهجها الحالي من دون صعوبة، وعبر بذلك عن قدر كبير من الاحتقار لمعارضي تلك الطبقة ، ومنافسيها المتواضعين في صناديق الاقتراع.

بعض الوصاية على لبنان لم تكن تضرّ أبداً، بل لعلها تكون نافعة أكثر من تلك الشيكات على بياض، لطبقة سياسية أحالت البلد الى سواد..لا يختلف كثيراً عن ظلام سوريا.