إنّ المشكلة في أتباع «القاعدة» و«داعش»، وهم قلة ضئيلة بين العرب والمسلمين، أنهم يرفضون الاختلاف! وهذه حالة مقلوبة؛ لأنّ الأكثريات في العادة هي التي تأبى الاختلاف والتنوع، سواء في الثقافة أو في الدين أو في العمل السياسي. وقد كانت تلك الأكثريات تخشى من وراء الاختلاف والخلاف تهديد الوحدة الوطنية، وتهديد الملاءمة في سياسات الدولة. زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن ذهب إلى رفض الاختلاف والتعدد، عندما تحدث عن الفسطاطين، فسطاط الإيمان، وفسطاط الكفر، ولا ألوان بين الأبيض والأسود. والمتطرفون الآخرون من غير «القاعدة» و«داعش» أقبلوا أيضاً على تكفير الخصوم بداعي الاختلاف معهم وعنهم؛ ولأنهم يملكون الحقّ الصُراح مثل الطهوريين الآخرين؛ فإنّ المختلفين عنهم يصبحون في موضع الاتهام. وأقصد بالمتطرفين غير الداعشيين الجماعات الإيرانية والمتأيرنة التي تريد أن تجعل من نفسها مقياساً في الدين والدنيا والسياسات. والأمثلة على هذا الوضع المقلوب كثيرة في العقود الأخيرة، وفي كل البلدان العربية. ففي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، طمح الجنرال عون لرئاسة الجمهورية في لبنان؛ ولأنّ الأحزاب المسيحية الرئيسية والبطريرك صفير لم يكونوا معه، وأرادوا الذهاب باتجاه المصالحة وباتجاه الطائف، فقد بلغ من غيظ الجنرال الذي استمر طويلاً قبل منفاه وبعده، أنه حاول أن يهندس انشقاقاً بداخل الكنيسة المارونية بقبوله اتفاقاً مع النظام السوري على زيارة قبر القديس مارون الذي يُنسَبُ إليه تأسيس فرقة الموارنة في القرن الخامس أو السادس الميلادي، بقرية معاد، بشمال سوريا؛ لأنه ما عاد يعتبر بكركي مرجعيته! وقد دأب الأكراد طوال نحو القرن على المطالبة بحق الاختلاف، للخروج من ضغط الدول الكبرى، والأُمم الكبرى: التركية والإيرانية والعربية. لكنْ عندما سنحت الفرصة، للاقتراب من حقهم «القومي» نسوا وضع الاختلاف والأقلية، وانتقلوا فوراً لوضْع الغَلَبة باعتبار الخدمات التي قدّموها للأميركيين في غزو العراق، وللمنفيين الشيعة بإيران والذين دخلوا عشية الغزو عن طريق كردستان! إنّ الذين طالبوا بحق الاختلاف مع الأكثرية الدينية والوطنية والسياسية، عندما تنكروا لذلك عَلَناً، فلأنهم أرادوا الانتقال من رؤى التعددية التي تجعل الساحة مُتاحة للجميع، إلى رؤية وممارسة الغَلَبة، في الدين والمذهب كما في السياسة. وهذه الممارسات باسم السيادة وباسم المقاومة، وباسم وحدة الأرض والشعب، وباسم مكافحة الإرهاب، والتي يرفع لواءها ويقوم على مذابحها وتهجيرها الإيرانيون وميليشيات النظام والأتراك، ليست إلاّ ممارسات غلبة، وقعت في أصل الاضطراب بعد غزو العراق، كما وقعت في أصل الثورة السورية، وستظلّ علة العلل في مستقبلها المغمس بالدمع والدم، بالإضافة إلى ما يحدثه الطيران الروسي. لقد اجتمعت الأطراف الثلاثة، الروسي والتركي والإيراني، في أنقرة للتشاور في المستقبل القريب، وكيف تهندسُ وحدها الحلَّ السياسي، وأَصدرت بياناً عن وحدة سوريا وسيادتها، ودعوة الأميركيين للجلاء عنها. وكيف تكون سوريا واحدة، وتكون لشعبها الواحد، وثلث الشعب السوري مهجَّرٌ بالخارج والداخل، وهناك قرابة الستمائة ألف قتيل، ودمار في العمران نسبته أكثر من أربعين في المائة. ولماذا يجلو الأميركيون، ولا تجلو الميليشيات الشيعية والجيش التركي والروسي؟! هذه هي الغلبة بعينها، وهذا هو التمادي بعينه. الحلُّ الإيراني لسوريا والعراق واليمن، لا يختلف عن الحلّ الإسرائيلي لفلسطين: تهجير السكان، وتغيير المعالم، ووضع الوضع الجديد في خانة النظام وخانة مزارات أهل البيت! فحتى روسيا تضع في شرطتها العسكرية التي تدخل لقرى الغوطة وبلداتها شيشاناً مسلمين، بينما يدخل إلى البلدات التي جلا عنها المسلَّحون وجزء من المدنيين، ميليشيات إيرانية ومتأيرنة، وميليشيات النظام ليقتلوا ويفجّروا وينهبوا ويهينوا، ومن يهينون؟ الشعب السوري الذي يَدّعون الحفاظ على وحدة أرضه وسيادته! سوريا العربية على مشارف حلٍ روسي - إيراني – تركي، لا يُبقي ولا يذر. وسيخرج الأميركيون، ويخرج الروس وتبقى قواعدهم واتفاقياتهم مع النظام. أما الغلبة الإيرانية فباقية بميليشياتها وطائفيتها وسلاحها - وعلى مقربة منها الجيش التركي والميليشيات السورية التابعة له، بحجة حماية حدوده من الأكراد: فمن يحمي بقايا السكان المدنيين السوريين، الميليشيات الإيرانية أم ميليشيات النظام، التي تنهب بقايا منازلهم الآن؟! وفي العراق ولبنان انتخابات في شهر مايو (أيار). ونصف سكان المناطق العربية السنية لم يعودوا بعد إلى محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى. وميليشيات الحشد الشعبي تتمتع بالدوران في سائر المحافظات. وسمعتُ كاتبة عراقية اسمها أمل الجبوري على «العربية» تتحدث عن أكوام الجثث الباقية تحت أنقاض مدينة الموصل، التي لا تُضاهي مأساتها إلاّ مأساة مدينتي حلب وحمص! فكيف سيُقبل العراقيون هؤلاء على الانتخابات، وبأي نفسية، وأي آمال؟ وقد تحدثنا مراراً عن الانتخابات اللبنانية وقانونها العتيد. وهو مبرمجٌ بحيث يربح «حزب الله» وأنصاره، ويخسر التكتل السني ثلث أعضائه الذين كسبهم في انتخابات عام 2009. ومع ذلك، يقول رئيس الحكومة اللبنانية الحالي في اجتماع له مع رئيس حكومة سابق إنهما حَمَيا مصالح الطائفة، ومصالح الوطن، وأخرجا الإرهاب من طرابلس وعرسال! الطائفة السنية في لبنان لا تشعر بالأمن، ولا ترى أنّ المسؤولين السياسيين الذين يطلبون أصواتها الآن، قد صانوا حقوقها وحصتها في النظام، كما لا ترى أنّ الإرهاب ما كان إلاّ في طرابلس وعرسال، وهو إنْ كان، فالرجلان وغيرهما ما عملا مع المدينة والبلدة بحسّ الوعي والمسؤولية. وهناك جمهورٌ عربي رابع هو الجمهور الفلسطيني، الذي يواجه مصائر الإلغاء لوجوده ومقدساته ونفوسه وحرياته. ومع حشود «العودة الكبرى» التي سقط فيها العشرات برصاص الجيش الإسرائيلي، مُنع الفلسطينيون من دخول المسجد الأقصى، لتخصيصه لجحافل المستوطنين! وسيأتي ترمب في منتصف مايو ليحتفل مع الإسرائيليين باعتبار القدس عاصمة أبدية للدولة العبرية! لدينا الجمهور العربي في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، ويُضاف إليه الجمهور الليبي والجمهور الصومالي... الخ، وجميع هؤلاء يواجهون تحديات وجودية تتمثل في التهجير والقتل والإرغام على تغيير الهوية والانتماء، ولا حماية لهم ولا ضمانات، بل في الحد الأدنى حصار وتجويع. والقرآن الكريم يعتبر أكبر الجرائم جريمتين لا يمكن الصبر عليهما: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...». فالبر والقسط هما عنوانا العلاقة مع كل الناس، باستثناء حالتين لا ينبغي التنازُلُ إزاءهما: الإرغام على تغيير الدين، والإرغام على هجران الموطن والوطن. ونحن نواجه هاتين الحالتين في العراق وسوريا وفلسطين، وما هو أقل من ذلك بمقدار قليل في بقية بلدان الاضطراب! ما كان الجمهور العربي في سائر البلدان المذكورة هو الذي يُنكر على الآخرين حقَّ الاختلاف، وحقَّ الإفادة من التعدد. بل المنُكرون والمستبدون هم رؤساءُ الأنظمة الحزبية الحاكمة، وشعارهم: من تحزّب خان! وها هم اليوم مع أشباههم من الأقليات يُنكرون على الجمهور العربي الحق في الحياة والحرية والعيش الكريم في دياره وديار آبائه. وفي حالة مُزرية كهذه، يكون اللجوء إلى السلطات، أو إلى المجتمع العربي، أو الدولي. لكنْ كيف يلجأ الناس إلى الحكام الذين لا يكتفون بقتلهم، بل يجلبون ميليشيات أجنبية للمساعدة على ضرب شعبهم: لا يُلامُ الذئبُ في عدوانه إنْ يكُ الراعي عدوَّ الغنمِ