كتب العراقي زهير الهيتي في روايته "أيام التراب": ان المدينة، أي مدينة، عندما تخلو من الابطال الحقيقيين تصبح ملعباً للكاذبين الذين يتحدثون برطانة عن صناعة التاريخ. وبغداد كذلك منذ ان سفحت شرعيتها على اسفلت شوارعها. والآن لا تبدو أكثر من بركة آسنة. لهذا لم يعد أحد يخجل مما يرتكبه في حقها وحق تاريخها وأهلها! صارت تعيش، ونعيش، من دون أبطال حقيقيين، ويحكمها مدّعون. انها التفاهة الكبرى، تفاهة مخلوقاتها مفزعة، كابوسية، تريد منا العودة الى أيام القرود". 

الظاهر ان مدن لبنان لا تختلف عن مدينة الهيتي، وهي بكل أسف، تريد لنا العودة الى أيام القرود، ولكن على الطريقة اللبنانية التي تستخدم "البوتوكس" و"الفيلينغ" لتجميل مخلوقاتها المفزعة والكابوسية، وتنتحل صفة القوة وتخدع الناظرين اليها بشباب ديموقراطيتها الزائف.

التفاهة الكبرى تعكسها مسخرة الانتخابات وقانونها الذي فاز بدبلوم "المسخ" بعد نيله بجدارة شهادة "الخبيث"، وذلك لما يبشر به من انتهاك للفعل الانتخابي القائم على مفهوم حرية الاختيار. وهو انتهاك كفيل إيصال أسوأ طبقة من مدّعي العمل السياسي الى الندوة البرلمانية، ممن لا همّ لهم الا المزيد من السلطة والنفوذ والمال الحرام.

الانتهاك تعكسه اللوائح التي لا ينفع فيها "بوتوكس" او "فيلينغ" او أي وسيلة من وسائل التجميل لتمويه بشاعة ما أفرزته في ربع الساعة الأخير قبل انتهاء مهل تشكيلها.

ذلك ان مسخرة غرائب التحالفات وعجائب تبريراتها لا علاقة لها بالسياسة والدستور والقوانين التي تنتج وطناً.

ولا يصعب توقع ما يمكن ان تنتج هذه الانتخابات بقانونها المفبرك على قياس مَن يفترض ان يشكلوا مجلس النواب وتناط بهم مسؤولية التشريع والمراقبة والمحاسبة. تالياً لا يصعب التكهن أين ينحدر لبنان دولة وشعباً ومؤسسات. اذ يكفي، لنقرف، ان نشهد مهرجانات الكذب والزيف والالقاب الرنانة تُغدَق على مَن يفتقرون الى قامات وطنية، ونشمّ رائحة القرود تحت الاناقة المستعارة لحديثي النعمة وناهبي المال العام المتظاهرين بالرقي.

يكفي، لنخاف، ان نسمع هذا التشدق الوقح على مدار الساعة عن التزام الثوابت الوطنية من جانب الفريق الأشدّ انتهاكاً لهذه الثوابت بحجة حماية طائفته واسترجاع حقوقها، والتغني بالقوة التي تميزه وتعطيه الحق الشرعي في الاستيلاء على السلطة، وإن عبر استخدام كل الوسائل البشعة التي تحرك الغرائز وتبرر التحالفات الخالية من أي ارتباط ببرنامج او مبدأ او صدق في التعامل.

حتى ان احد منظّري عظمة حزبه وقوة سيده، أوضح ان الاستعانة بالاثرياء في اللوائح لا يهدف الا الى استغلال الأصوات التي يمكنهم تأمينها للائحة، مع الإقرار بأن هؤلاء الأثرياء لن يفوزوا، لكنهم بمثابة السلّم لفوز الحزب القوي الذي يستأثر بتمثيل غالبية ابناء طائفته، والذي يسعى بوسائل بعيدة كل البعد عن الإصلاح والشفافية والنزاهة ليُحكم قبضة جماعته وأصحاب الحظوة فيه على مرافق الدولة.

عنزة ولو طارت. هكذا يبدأ النقاش وهكذا ينتهي، عليهم ان يربحوا ومن بعدهم الطوفان الذي سيجرف منافسيهم ومعارضيهم حتى داخل البيت الحزبي الواحد، ويغرق الوطن كل الوطن.

الانكى ان هناك من يعتبر ان الغيرة والحسد هما الدافع لأي انتقاد يوجَّه الى الحزب القوي بـ"البوتوكس"، بحيث لا يحتاج حتى الى خرزة زرقاء. هذه القوة تعطيه الحق في الهيمنة على وظائف الدولة من دون أي ذكر للكفاءة. كذلك تحول دون تعيين من فاز بامتحان الكفاءة لوظيفة ما، بحجة التوازن الطائفي.

المشكلة ان تُعتبر هذه الحجة ترجمة لخلاف سياسي، وليس ترجمة لانعدام القيم والأخلاق والحدود الدنيا من التزام القانون والدستور.

النغمة الجديدة للحزب القوي هي إصرار على تبرير صفقة البواخر التي ترشح فساداً، جاءت على لسان احد أعضائه وهو يخيّر اللبنانيين بين البواخر او الكهرباء من سوريا. أنعم وأكرم. ما الذي نريده أكثر من ذلك.

كهرباء من سوريا ومرشحون من سوريا. والحزب القوي بـ"البوتوكس" يحي العظام وقد حسبنا انها رميم.

مع هذا، تجد تفاهة المخلوقات المفزعة والكابوسية مَن يتحالف معها ومَن يتستر عليها ومَن يقوم بالواجب حيالها، ودائماً على الطريقة اللبنانية التي ترفع كبار اللصوص والفاسدين الى القمة وتبجلهم وتنكل او تستخف بمن يتحدث عن القيم والأخلاق والحقوق المتساوية والرغبة ببناء وطن فيه مدرسة ومستشفى وجامعة لمواطن أعزل وغير مدعوم من الأقوياء على الوطن.

و... انتخبونا!