لم يبق قانون الانتخاب ولم يذر، فضمرت التحالفات المبنية على غايات تتعدى تأمين المقعد البرلماني، باستثناء «جلمود الحزب ـ حركة أمل»، المتراص ككتلة تريد تحاشي أي خرق لجدار الثنائي الحزبي الشيعي، في حين تخوض حزبيات الطوائف الاخرى المعركة داخل طوائفها بالدرجة الاولى من اجل الاحتفاظ بصدارتها ضمن هذه الطوائف وتحاشي السيناريوهات الأكثر احراجاً قدر المستطاع.
بمعزل عن ثنائي أمل والحزب، يسود التهجين مختلف اللوائح المقفلة الاخرى. ومع ان القصد المعلن من اللوائح المقفلة في النظام الانتخابي النسبي المعتمد لأول مرة في لبنان، كان الرفع من منسوب التسييس، والتخلص من «اللوائح المحادل» في النظام الاكثري المتعدد الاسماء المعمول به تاريخياً في هذا البلد، الا ان النتيجة كانت احلافا انتخابية «اكزوتيكية»، لا تبقي مساحة حتى رمزية، أو فولكلورية، للاعلان عن «برنامج انتخابي» جدي، باستثناء اعادة صياغة عدد كبير للمرشحين على طريقتهم، لما قالته النائب جيلبرت زوين عن حالها، بكل براءة، حين اوضحت امام الكاميرا بكل بساطة انها لم تكن تريد ان تخرج من لائحة العونيين لكنهم اخرجوها وما عادوا يريدونها فما عاد لها الخيار الا لائحة اخرى.
في الدورات الماضية، كانت هناك على الاقل شعارات برنامجية استقطابية، على اساسها يلتقط المضمون السياسي للمعركة الانتخابية. لكن اليوم. اي برنامج سيصيغه مثلا التيار العوني، تيار رئيس الجمهورية، المنادي بارجاع «حقوق المسيحيين» بضراوة في السنوات الاخيرة، وهي مقولة تتكثف في شكوى الانتقاص من صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني لصالح رئيس الحكومة السني. فالتيار يخوض المعركة مع حليفه الانتخابي «السوري القومي الاجتماعي»، العلمانوي و«المدرحي» في المتن الشمالي، ومع الاخوان المسلمين في دوائر اخرى، مع ان العونيين لم يكلوا لسنوات وهم يلومون رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لتعليقه في اثر انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسا لمصر في اول انتخابات رئاسية عربية بالاقتراع العام المباشر انه «ليحكم الاخوان» (وكان جعجع يقصد بالاحرى، ليس فقط حكمهم ما داموا كسبوا الانتخابات، بل ايضا، تجريبهم بداعي التقييم والنظر في الأهلية)، ثم خفت هذا التشكي من كلمة جعجع حول الاخوان، وتقاربت الحسابات الانتخابية «التيار العوني» من «القوات» قبل عامين، مطلقا العنان لحلم «التسونامي المسيحي المزدوج» الذي ظهرت تهلهله في انتخابات 2015 البلدية. اما بعد التسوية الرئاسية والحكومية، وانتخاب ميشال عون رئيسا وتشكيل حكومة سعد الحريري الحالية، فتطور التواصل العوني مع «تيار المستقبل» على حساب القوات، إلى ان شاءت الأقدار اقفال اللوائح في بعض الدوائر على تحالف «حين ميسرة» بين التيار الوطني الحر والاخوان المسلمين.
كل الافتراضات «السياسوية» ذهبت سدى. لا تفاهم «الحزب» وتيار الرئيس ميشال عون صاغ نفسه كاستراتيجية انتخابية شاملة مدعمة ببرنامج سياسي مشترك، ولا تركة التحالف «السيادي» بين «القوات» و«المستقبل» امكن احياؤها، الا بشكل جزئي وطرفي وبشق النفس او «من غير نفس»، ولا التناغم بين الرئيسين عون والحريري وجد تعبيره الانتخابي الامضى. وشيئا فشيئا جرت عند المرشحين اللازمة، سواء كانوا من قدامى «الاستبلشمنت» او بين تقليعات وفقاعات «قوى المجتمع المدني»، او من هذا وذاك، بأن نيتهم كانت خوض الانتخابات عن جدارة كمنازلة سياسية، سوى ان قانون الانتخاب حكم عليهم، بالذئبية الانتخابية، «اللاسياسية»، اولا للتمكن من الدخول في لائحة يمكن ان تنال حاصلا انتخابيا (قسمة عدد الناخبين على عدد المقاعد كعتبة انتخابية في الدائرة المعنية)، وثانيا لتأمين ما يكفي من أصوات تفضيلية لانتزاع المقعد.
لناظر من بعيد، سيبدو الامر كما لو ان مرشحي «الجلمود» (اللوائح المقفلة على أمل والحزب)، «غيريّون»، أو أقله «نحنيون»، يخضعون لنازع «النحن» الحزبية والمذهبية واذا ما أدلجناها أكثر، إلى «نحن» مشروع الممانعة الاقليمية، وكل ما سوى ذلك «أنانيون»، لا ترسي لهم «نحن» على برّ، وتتكشف «نحنهم» زبدا بسرعة هائلة، ويبحث الشخص منهم عن أي حافلة يمكن ان تقله إلى البرلمان، او يترجل منها بـ«نحنية» زائفة، عندما تظهر قلة حيلته.
أما للناظر عن قريب فسيكون من الاصعب اعتماد هذه المباينة بين «نحنية» امل والحزب الغيرية، و«أنانية» شخصيات القوى والفعاليات الانتخابية الاخرى، كمباينة منهجية وشاملة وعلى طول الخط. مع ذلك، سيبقى منها شيء، ولن يكون بالامكان اختزال هذا الشيء إلى معادلات تملك «الحزب» السلاح والتعبئة الدائمة والطاعة العقيدية. الاكثر «ذئبية» في علاقته مع الحزبيات الاخرى، «الحزب»، يبدو الاكثر «نحنية» في نجاحه في اقفال باب «النحن» الانتخابية على لائحة مشتركة بينه وبين حركة امل وبعض زوائد، من دون ان يخرج تململ من كانوا يمنون النفس بالحلول في هذه اللوائح لركب حافلات اخرى في مواجهة الحافلة الشيعية المركزية. اما القوى الاخرى فيبدو «الانا» فيها متسيدا على كل «نحن»، وحتى «القوات» التي تخوض الاستحقاق بانضباطية تنظيمية، فان «النحن» التي تعبر عنها أشبه ما تكون بالأنا: سياسة «عصبوية» انتخابيا، لم تقبل بأن يشارك لوائحها أناس كانت لتقبلهم في قيادتها الحزبية لو ارتضوا حمل بطاقتها، لكنهم لم يقبلوا ان ينضموا إلى كتلتها البرلمانية، فجرى الاعراض عنهم، ومنهم من حملته «اناه» إلى لائحة غريمه السياسي، كميشال معوض «المنفي» إلى اللائحة العونية، ومنهم من قنع بلائحة مزركشة «عبثية سياسيا» اذ كان منظاره هو الراديكالية بازاء «الحزب»، كاللائحة التي ينخرط فيها فارس سعيد في كسروان جبيل، فصاحب الموقف الاكثر منهجية من سلاح الحزب سيجد نفسه في لائحة مع مرشحين كانوا قبل ايام قليلة مترددين بين هذه اللائحة وبين لائحة «حزب اللهية» محتملة في الدائرة، ينفر منها حلفاء الحزب العونيون انفسهم.
الذئبي في الواقع الامني والسياسي ليس حملا انتخابيا، خصوصا عندما يستشرس لتقليل احتمال الخرق في واحدة من الدوائر القليلة التي تظهر فيها مبارزة سياسية في الانتخابات على خلفية الموقف من الحزب، دائرة بعلبك الهرمل.
في المقابل، الحملان بحكم الامر الواقع، سواء كانوا ذئابا سابقين، او ذئابا في المنامات، او حملان راضين «بقسمتهم»، فان الاستحقاق ينشط عندهم الذئبية، ليس لفرز سياسي، بل ضمن كل بيئة وكل مجموعة، وتحديدا لأنه ليس هناك اي معيار تفاضلي على هذا الصعيد، اللهم سوى «الرأسمال الرمزي للذئبية».
هذا المشهد اللبناني العام «اللاهث برلمانياً»، بتقليدييه و«مدنييه»، وبنجاح «الحزب»، من خلال تحالفه مع «أمل» لاقفال النوافذ في البيت الداخلي الشيعي قدر المستطاع، هو بحد ذاته بمثابة نتيجة مسبقة للانتخابات النيابية. الانتخابات اولى تداعياتها.