ألم يأتِ الظلم والقهر في كل طائفة من المتحكمين بمقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
 

على رغم إنقضاء سنوات في البحث والجدل بغية صوغ قانون انتخابي تتمثل من خلاله كل المكونات الطائفية للمجتمع اللبناني تمثيلاً عادلاً وواقعياً، لا يبدو أنه شكل حل ينهي القلق على مستقبل الديموقراطية في لبنان ولم يبدّد الخوف على أمنه والتئام فئاته وطوائفه في بوتقة وطنية ثابتة، والقانون الجديد الذي لا زالت ظروف إنتاجه غامضة ، هذا القانون الذي أدخل النسبية من جهة ،وتوجها بمذهبية القانون الأكثري (الأرثوذكسي) وذلك من خلال ما سمي بالصوت التفضيلي الذي فسح المجال أمام إستنفار العصبيات والولاءات المذهبية والعائلية والعشائرية، الأمر الذي خلق أزمة مستعصية من خلال إعادة إنتاج تلك العصبيات.  
وتبرز الإشكالية في هذه الأزمة، أن الصراع كان وما زال يدور في إطار العلاقة المتناسقة بين «الخوف» و «الغلبة» في مجتمع لم يصل بعد إلى الإنصهار الوطني الجامع، فمن جهة يخشى المسيحيون على وجودهم ودورهم في مـــوازاة التراجع الديموغرافي في لبنان والمنــــطقة، ومن جـــهة أخرى يتمظهر الإحــساس بالغلبة والهيمنة لدى الطوائف الإسلامية عبر يقظة وبروز أصولياتها بمنهجها الإلغائي وبعدها الإستئصالي.

إقرأ أيضًا: باب التسجيل للوائح أُقفل والمعركة على أشدّها
وهكذا يمكننا القول إنه لا يوجد «مشكلة مسيحية» في لبنان ما هو إلا غض النظر عن الواقع والتاريخ وتجاهل حقيقة التحولات منذ سقوط الحركات القومية وبروز نجم الحركات الأصولية المتشددة في العالم العربي والإسلامي، حيث طرحت هذه الحركات ولا تزال تطرح على المسيحيين، وفي أشكال متفاوتة الحدة والحسم، أسئلة الوجود والبقاء والدور والمستقبل، الأمر الذي ما عرفه هؤلاء حتى في زمن السلطنة العثمانية التي عملت على استيعاب الأقليات الطائفية من خلال نظام الملل، واللافت للنظر أنه ليس منطقيا ولا واقعياً ألا يتوقف المسيحيون أمام التحولات الجارية منذ الربع الأخير من القرن الماضي حيث راحت تتشكل هجمة أصولية متشددة رافضة للآخر ومهددة في الجوهر للآخر الديني والمذهبي والعقائدي، فيما تدل الإحصاءات للنزوح الكثيف للمسيحيين من المنطقة، والاستهداف الممنهج فضلاً عن تعرضهم للإعتداء مادياً ومعنوياً وفي العراق بشكل خاص، حتى أن بطاركة الشرق الكاثوليك دقوا منذ سنوات نفير الخطر على الوجود المسيحي في الشرق. 
من هذه الخلفية يجب أن نقرأ الإشكالية الراهنة في التوصل إلى قانون انتخابي في لبنان، فهناك شرخ أيديولوجي عميق بين الطوائف اللبنانية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ليس ثمة اتفاق على مفهوم الدولة الذي لا يزال في إطار فكرة الدولة التوافقية على أساس المحاصصة والمنافع بين قادة الطوائف، ولا اتفاق على العلاقة القائمة أو التي يجب أن تقوم بين السياسة والسنن، كما لا يوجد اتفاق كذلك على علاقة الوطن بالطائفة أو علاقته بمحيطه العربي والإقليمي، على الرغم من تكريس الطائف لمسألة الهوية دستورياً، وهكذا تضيع الأفكار والاعتبارات والمواقف، فلا توافق على تاريخ لبنان ولا على هويته ودوره وانتمائه الحضاري، الأمر الذي حتماً سيقود الى خلق التباس الرؤى السياسية وانعكاس ذلك على «الحوار السفسطائي» الذي دار سابقاً والذي سيدور في المستقبل، والذي لم يصل حتى الآن إلا إلى المزيد من الشرخ في الرؤى والتصورات والمفاهيم، حيث يتم طرح أفكار انقسامية استعبادية للآخر، تركز على أحادية الهوية الطائفية من دون أية هوية سواها، لتنحصر في هذا الإطار الضبابي فكرة «القانون الانتخابي» واختيار كل طائفة نوابها، مع ما في ذلك من استعادة بائسة لنظام الملل العثماني والرجوع إلى ما يشبه مرحلة القرون الوسطى متجاوزين العقد الاجتماعي والمجتمع المدني.

إقرأ أيضًا: إفراغ القانون الجديد من إيجابياته
إلا أن ثمة خللاً بنيوياً يسود مثل هذه الطروحات بتركيزها على انتماء واحد للمواطن اللبناني الفرد ذو الهويات المركبة والمتعدد الانتماءات باستثناء الانتماء للوطن، واختزاله بالتالي ببعد واحد، و إقصاء كل أبعاده الأخرى والقواسم المشتركة التي تجمعه مع الآخرين من اللبنانيين، وبهذا الإختزال ينخرط في علاقات عدائية مع الآخر بدل الانخراط في علاقات تشاركية إزاء المشاكل المشتركة، الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والإنسانية، ما لا يلبث إلا أن يمهد للصراع الأهلي بين الجماعات المختلفة، ولصراع آخر بين الانسان الفرد ومجتمعه، وبين مكونات هذا المجتمع نفسه، ما يحيله إلى حلبة صراع دائم ولنا من التاريخ ودروسه ما يؤكد هذا المآل، فالقهر والاضطهاد مورسا ضد المنتمين إلى الجماعة الطائفية كما مورسا ضد الطوائف الأخرى، وفي محن الأحرار الذين خرجوا على الأيديولوجيا السائدة دليل ساطع على أن الحل الطائفي يقود إلى دكتاتورية الطائفة على مكوناتها الفرعية وأفرادها، وليس إلى تقدم المجتمع نحو الحرية الحقيقية.
لقد عانى المواطنون اللبنانيون مسلمون ومسيحيون على السواء على يد جماعاتهم حين استتبت لها قيادة مجتمعاتها والتحكم بها في غياب دولة وطنية راعية لحرية الأفراد والجماعات، ألم يأتِ الظلم والقهر في كل طائفة من المتحكمين بمقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ وهل إهتم هؤلاء بمحن وعذابات معارضوهم في الطائفة؟ هل قلقوا إزاء هجرتهم وتشردهم وبؤسهم؟
عليه نرى أن لا حل طائفياً للمشكلة في لبنان، وأنه على الذين لا يزالون يدورون في عنق الزجاجة بحثاً عن حلول طائفية للمشكلة أن يخرجوا من تصوراتهم الطائفية المدفوعة بعامل «الخوف» أو بعامل «الغلبة» والتطلع إلى الهموم الكبرى للمجتمع اللبناني بأسره، سوى ذلك ليس إلا تأبيداً للمشكلة وإستمراراً للمعاناة لان هذه المعضلة بطبيعتها ولادة أزمات، وهذا الأمر بات أشبه ما يكون بالإنتحار الجماعي .