أثارت أخبار اعتقال السلطات الإيرانية لرجل الدين الشيعي حسين الشيرازي في السادس من فبراير الكثير من ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة داخل الأوساط الشيعية في إيران والعراق، وخرج عدد من التظاهرات في مدن قم وكربلاء، طالب المشاركون فيها بالإفراج عن نجل المرجع آية الله صادق الشيرازي، وهو واحد من أهم المراجع الشيعة في العالم ومن أكثرهم نفوذاً.

 

 

حسين الشيرازي

 

 

الموقف من السلطة في إيران

تُعتبر المرجعية الشيرازية واحدة من أهم المرجعيات الشيعية الاثنا عشرية الموجودة في العالم الآن، وتتميّز بتطرّفها وميلها للعودة إلى الأصول والتقاليد القديمة في الفكر الشيعي، كما تشتهر بمهاجمتها لرموز المذهب السني قديماً وحديثاً، حسبما يؤكد المفكر الشيعي أحمد الكاتب في كتابه "المرجعية الدينية الشيعية وآفاق التطور/ الإمام محمد الشيرازي نموذجاً".

 

إحدى السمات الرئيسة التي تتسم بها المرجعية الشيرازية هي معارضتها الواضحة والصريحة لنظام الولي الفقيه الحاكم في إيران، مع أن علاقة التيار الشيرازي بالثورة الإيرانية ظلت متينة لسنوات، كما يتميّز الشيرازيون بتديّنهم الطقوسي واهتمامهم البالغ بمناسبة عاشوراء وبممارسة شعيرة التطبير.

وبحسب ما يذكره إياد موسى محمود في كتابه "دراسات في فكر الإمام الشيرازي"، فإن رفض تلك المرجعية لنظام الولي الفقيه بدأ مع وصول آية الله روح الله الخميني إلى الحكم، واستحواذه على السلطة المطلقة في إيران بعد القضاء على الحكم الشاهنشاهي.

اعترض رجل الدين الشيعي آية الله محمد بن مهدي الحسيني الشيرازي، رغم كونه ممّن ساندوا الخميني في بداية حركته، على فكرة الولاية المطلقة لفقيه واحد، فقد كان يطالب بمشاركة جماعية من عموم الفقهاء المشهود لهم بالعدالة في إدارة أمور الدولة.

وأدى الخلاف حول تلك المسألة وحول مسائل أخرى بين الخميني والشيرازي إلى التضييق على الأخير وعلى أتباعه في إيران، فمُنع من إلقاء الدروس والخروج من منزله، وظل على ذلك الحال حتى وفاته عام 2001، حين خلفه أخوه صادق الحسيني الشيرازي في منصب المرجعية، واتخذ مع أتباعه في مدينة قم مركزاً قوياً للمعارضة الروحية لنفوذ مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي الذي يحكم من طهران.

التاريخ الثوري للشيرازية

من الأمور المميّزة للأسرة الشيرازية عبر تاريخها أن مرجعياتها لعبت دوراً محورياً في المشاركة في عدد من الثورات وحركات التغيير السياسي في أكثر من دولة من دول المنطقة العربية وفي إيران.

 

 

محمد حسن الشيرازي

 

 

ويمكن أن نتلمس البدايات الأولى لذلك على يد محمد حسن الشيرازي، المعروف بلقب الشيرازي الكبير أو المجدد الشيرازي.

الشيرازي الذي ولد عام 1815، في مدينة شيراز، ثم انتقل إلى مدينة سامراء العراقية، بدأ علاقته الجدلية مع السلطة الإيرانية عام 1890، خلال ما عُرف بانتفاضة التبغ أو التنباك.

كان الشاه ناصر الدين القاجاري قد اتفق مع بريطانيا على منحها امتياز حرية التصرف بالتبغ الإيراني، وقوبل هذا الاتفاق بمعارضة من الشيرازي، إذ رأى فيه تسليماً بالهيمنة الأجنبية على بلاده.

صورة لفتوى الشيرازي حول التبغ

راسل الشيرازي الشاه القاجاري معترضاً على تلك الاتفاقية، ولكن الأخير لم يلتفت إلى رسائله المتكررة، فأصدر الشيرازي فتوى نصها: "إن استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومَن استعمله كان كمَن حارب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف".

ثم أتبع فتواه المذكورة بأخرى هدّد فيها بشكل صريح ومباشر بالدخول في مواجهة عنيفة مع السلطة القائمة في إيران، وقال: "إذا لم يُلغَ امتياز التنباك بشكل كامل، سوف أعلن الجهاد خلال ثمان وأربعين ساعة".

وعندما شاع خبر تلك الفتاوي بين عموم الشعب الإيراني، لقيت تجاوباً كبيراً، وقام كثيرون من الإيرانيين بترك التدخين وكُسرت كل نرجيلة وكل آلة للتدخين، واضطر الشاه في نهاية الامر إلى فسخ تعاقده مع الشركة الإنكليزية.

الحلقة الثانية من سلسلة التداخل الشيرازي في السياسة، كان مسرحها العراق مع السيد محمد تقي الشيرازي، الذي تتلمذ على يد الشيرازي الكبير، وتصدى لمنصب المرجعية عقب وفاته عام 1895.

ففي عام 1920، اندلعت ثورة العشرين في العراق، ضد السلطة الإنكليزية. وحسبما يذكر عبد الوهاب الكيالي في كتابه "موسوعة السياسة"، لعب محمد تقي الشيرازي دوراً كبيراً ومهماً في قيادة تلك الثورة، وذلك بعدما تدفق عليه زعماء العشائر ليطلبوا منه الرأي والنصيحة ويستفتونه في أمر إعلان الثورة ضد الإنكليز. فقام وقتها بإصدار فتواه الشهيرة التي جاء فيها: "مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم، رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية، إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم".

أدت تلك الفتوى إلى اشتعال الثورة في شتى أنحاء العراق، وقام العرب بقتال القوات الإنكليزية وألحقوا بها خسائر بشرية ومادية فادحة، فردّت السلطات البريطانية على المرجع الشيرازي باعتقال ابنه وعدد من المقربين منه وبعض قادة الثورة ونفتهم.

أما الحلقة الثالثة من سلسلة تدخل الشيرازيين في السياسة، فقد تمت على يد المرجع محمد بن مهدي (محمد الحسيني) الشيرازي، حفيد حبيب الله ابن أخ المجدد الشيرازي الكبير. ومع هذه الحلقة بدأ ما يُعرَف حالياً بالتيار الشيرازي.

بحسب ما يذكره محمد حسين علي الصغير في كتابه "قادة الفكر الديني والسياسي في النجف الأشرف"، كان محمد مهدي الشيرازي من طليعة المراجع الذين أيّدوا الخميني في ثورته ضد النظام الشاهنشاهي.

ويروي أنه، بعد اندلاع انتفاضة في إيران عام 1963، ألقي القبض على الخميني باعتباره زعيماً لتلك الثورة وتم تقديمه إلى المحكمة العسكرية الكبرى في طهران، وكان معنى ذلك أن ينفّذ بحقه حكم بالإعدام، ولكن ما اعترض تنفيذ هذا الحكم أن الدستور الإيراني يقضي بعدم إعدام أي مرجع تقليد في البلاد. ولما كان الشاه لا يعترف بمرجعية الخميني فقد كاد يريد أن يُنفّذ فيه حكم الإعدام.

وهنا برز دور السيد محمد الشيرازي الذي كان في ذاك الوقت يسكن في كربلاء. فقد أسرع متجهاً إلى النجف الأشرف حيث يوجد المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم، وحثّ الشيرازي علماء النجف على الاجتماع ونصرة الخميني ومخاطبة الدولة الإيرانية لإيقاف قرار إعدامه والتأكيد على مرجعيته. وبالفعل اجتمع علماء النجف وعلماء قم وتم التراجع عن قرار الإعدام واستُبدل بالنفي، ورحّلت السلطات الإيرانية الخميني إلى تركيا، ثم مُنح حق اللجوء السياسي في العراق بعد ذلك، فأقام في النجف.

ويعتبر الباحث علي المؤمن في كتابه "سنوات الجمر" أن تيار الشيرازيين بدأ في منتصف ستينيات القرن الماضي، إذ نشط في كربلاء تحت اسم "حركة الرساليين – الطلائع". وواجه هذا التيار معارضة من المرجعيات الشيعية الكبيرة في النجف، وعلى رأسها السيد محسن الحكيم. ومنذ بداية الثمانينيات، راح التيار الشيرازي يتحرّك عبر "منظمة العمل الإسلامي".

 

 

ويرى البعض أن الشيرازية خرجت من رحم التنافس بين مدينتي كربلاء والنجف وهو تنافس له تاريخ وما السيد مهدي الشيرازي سوى تعبير متأخر عنه.

الشيرازية الآن... انتشار واسع ونفوذ كبير

 

 

محمد الحسيني الشيرازي في شبابه

 

 

بعد وفاة المرجع محمد الحسيني الشيرازي عام 2001، تصدى أخوه الأصغر صادق الحسيني للمرجعية واتخذ من مدينة قم المقدسة مقراً له، ويُعتبر الآن الممثل الرسمي الوحيد للتيار الشيرازي.

ومما يميّز الخط الشيرازي أن هنالك العديد من رجال الدين الشيعة الذين يتبعونه فكرياً وتنظيمياً، ويدعمونه بشكل غير مباشر في العديد من الدول العربية والأجنبية، ما أتاح الفرصة لانتشار أفكار تلك المرجعية على نطاق جغرافي واسع.

أحد أهم رجال الدين الذين يتبعون الخط الشيرازي خارج قم، هو مجتبى الحسيني، الأخ الأصغر للمرجع الحالي. اتخذ مجتبى مسلكاً آخر بعيداً عن الشكل الرسمي للمرجعية، بحيث تظهر فيه الشخصية الثورية بشكل أكثر حدة من باقي أقربائه من العائلة الشيرازية.

وكان مجتبى تلميذاً عند آية الله الخميني عندما قدم الأخير إلى النجف عقب خروجه من تركيا، وعُرف بتأثره الشديد بالشخصية الثورية للخميني وكذلك بملازمته الطويلة له، وكان له دور بارز في أحداث الثورة الإسلامية عام 1979، إذ كان من أهم أتباع وأعوان الخميني.

ولكن مجتبى الحسيني انقلب على الخميني بعد ذلك، ووجه له ولخليفته علي خامنئي الكثير من الاتهامات والانتقادات وصار من أبرز المعارضين للنظام الحاكم في طهران. وفي عام 1994، سافر مجتبى إلى إنكلترا واستقر في لندن، وقام من هنالك بتوجيه الاتهامات ضد  رموز المذهب السني.

وكذلك وجّه انتقاداته العنيفة، وبعبارات نابية، للحكومة السعودية، عقب أحداث البقيع بين الشيعة وقوات الأمن السعودية إذ دعا إلى تدويل المسجد الحرام والمسجد النبوي، وإلى استقلال المنطقة الشرقية من السعودية وإعلانها دولة مستقلة ذات سيادة كاملة.

في لندن أيضاً، يتواجد واحد من أهم الرموز المعاصرة للتيار الشيرازي، وهو الشيخ الكويتي الأصل ياسر الحبيب، الذي اعتاد على إثارة العواصف الجدلية المذهبية بين السنة والشيعة من حين إلى آخر، عبر نيله من الشخصيات المهمة في الثقافة السنية، من أمثال السيدة عائشة والخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، إلى حد إقامته عدداً من الاحتفالات في ذكرى وفاة بعضهم.

وفي كربلاء، يتواجد الشيرازيون من خلال مرجعية محمد تقي المدرسي، وهو ابن أخت صادق الشيرازي، ومعروف بآرائه المؤيدة للتيار الشيرازي، ومعارضته لنظام الولي الفقيه، وهو محسوب على الأسرة الشيرازية.

أما الأخ الأصغر هادي المدرسي، فقد كان له نشاط ثوري مهم في البحرين، كما كان له دور كبير في تأسيس الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين التي قامت بمحاولة انقلاب على النظام الحاكم في المنامة ولكنها تعرضت للإجهاض المبكر وانتهت بالفشل.

وفي المملكة العربية السعودية، يتواجد رجل الدين والكاتب السعودي حسن الصفار الذي أسس منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، والتي تنتشر مقارها في دمشق ولندن وواشنطن. وكان الصفار قد أعلن رسمياً انتمائه للخط الشيرازي، ووكالته للمرجع الأعلى المتواجد في قم.

وبعد خلاف التيار الشيرازي مع إيران، اتجه وجوهه في الخليج إلى فتح حوارات مع سلطات الدول الخليجية، وتحسّنت العلاقات بينهما، ولو نسبياً.

ورغم عدم توافر إحصاءات دقيقة، إلا أنه من المرجح أن الانتشار الذي نجح الشيرازيون في تحقيقه في السنوات السابقة، تم استثماره في توسيع رقعة الجماهير الشيعية المؤيدة لذلك الخط، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على تضخم الموارد المالية المتاحة في يد المرجعية الشيرازية.

فهذه المرجعية تتلقى أموال الخمس التي يعتاد قطاع كبير من الشيعة على أدائها إلى مراجعهم، هذا بالإضافة إلى الكثير من المساعدات المالية والعينية الضخمة التي يقدمها كبار الشيرازيين إلى مرجعية قم، وهو ما أتاح الفرصة لظهور العديد من المنابر الإعلامية التي تقوم على خدمة المرجعية الشيرازية ومهاجمة أعدائها، ومن أهم تلك المنابر فضائية الأنوار وقنوات فدك وصوت العترة التي تبث من لندن.

 محمد يسري