اعتُقل الشيخ عبّاس الجوهري وأفرِج عنه في اليوم التالي، فبدا أنّ السلطة التي تجنح أكثر فأكثر نحو الدولة البوليسية عاجزة عن لملمةِ تراكمِ الفضائح والتجاوزات، التي أوصَلت مجلسَ القضاء الأعلى إلى أن يصرخ بالصوت العالي في وجه وزارة الوصاية على السلطة المستقلة
 

عبّاس الجوهري وقبله أحمد الأيوبي وزياد عيتاني، هم نماذج لتعسّفٍ في استعمال السلطة وتسخيرِ القضاء لأهداف ٍسياسية، أمّا التحضير للانتخابات النيابية فيبدو أنّه سيكون الدليلَ الأبرز، على ذهاب أركان التسوية الرئاسية والحكومية، إلى ممارساتٍ لم تذهب إليها الوصاية السورية، وليست الانتخابات في المتن الشمالي المثلَ الوحيد على هذا السلوك ولن تكون الأخيرة.

أن تمارَسَ ضغوط على مرشّح في لائحة النائب ميشال المر لكي ينسحبَ من اللائحة، وأن يلوّح جهاز أمني لرؤساء بلديات بفتحِ ملفّاتهم، وحين تتمّ استمالتُهم تنام الملفات المزعومة، وأن تُسخَّر الإدارات وأن يعلن وزراء عن توظيفات بالآلاف، وأن يقوم وزير الخارجية جبران باسيل بالإعلان على حسابه الشخصي على تويتر عن مشروع قانون مجتزَأ وغير دستوري لإعطاء جزء من النساء اللبنانيات حقوقهنّ بجنسية أولادهنّ، فهذه سوابق لم تشهدها الانتخابات النيابية في لبنان، وهذا وضوح في رشوةِ الناخبين من كيسِ الدولة، لم يذهب إليه حتى السلطان سليم في عزّ سطوتِه، وهو يدلّ على نيّةٍ بسحقِ كلّ من لم يدخل في هذه التسوية، في مباراة غيرِ متكافئةِ الإمكانات والفرص.

أن يخرجَ زياد عيتاني بريئاً وأن يفضّلَ الصمت بعد أن شكرَ كلَّ من غطّوا عملية اعتقاله وفتحوا صالوناتهم لتقبّلِ التهاني من النجاة من مؤامرة اغتيال إسرائيلية، فهذا يعني أن ليس عيتاني فقط من أخرِج من صمتٍ إلى صمت، بل الحياة السياسية في لبنان، التي تتعرّض للإقفال الصارم، وفق قاعدة أن لا بديل عن تجديد شرعية من توافَقوا على تشكيل حكومة ما قبل وما بعد الانتخابات، ومن سلّموا جدلاً بأنّ السلاح غيرَ الشرعي وخرقَ القرارات الدولية ونسفَ علاقات لبنان العربية، ليست كلّها من اختصاص الدولة.

نموذج الضغوط التي تعرّضَت لها لائحة المر في المتن لم يكن يتيماً. هذا مرشّح قوي في كسروان تمّ التلويح له بالتضييق على أعماله واستثماراته قد انكفَأ، وآخَر في عكّار اعتكفَ، وآخرون كثُر تعرّضوا للترغيب والترهيب، ففضّلوا تجنُّبَ المتاعب ولاذوا بالفرار.

نموذج آخَر من التدخّل السافر والتأثير المسبَق هو ما حصَل مع اللواء أشرف ريفي، وهو يكفي لكتابة مجلّدات. عددٌ كبير من المرشّحين لم يصمدوا أمام هواتف التحذير والإغراء والتنبيه، فانكفأوا بعدما تمَّ الاتفاقُ على أن يكونوا ضِمن اللوائح في طرابلس وبيروت وعكّار.

أحد هؤلاء في دائرة طرابلس المنية الضنّية أقفَل هاتفه واختفى ساعات لكي يؤكّد أنّه صامد ويشارك في اللائحة. في قضاء المنية كان يكفي أن يتمّ ترهيب المرشّحين، حتى إذا خلت اللائحة من أيّ مرشّح، يصبح تشكيل اللائحة قانوناً على مستوى الدائرة متعذّراً، لكنّ لائحة ريفي ولِدت على رغم كلّ الضغوط.

سيكون عاملا المال والسلطة أساسيَين في التأثير على نتائج الانتخابات، فصرفُ النفوذ يُستعمل بحدّه الأقصى، والغطاء العربي مؤمَّن بطريقة أو بأخرى، ولم يتمكّن المعارضون من توحيد صفوفهم في إطارٍ فاعل، لكن ذلك لن يعني أنّ معارك حقيقية لن تُخاض في جبل لبنان الشمالي وفي بيروت وطرابلس وعكار، وخصوصاً في البقاع الشمالي الذي تنتظره معركة اختبارٍ أوّل للبيئة الشيعية المعارضة للثنائي الشيعي، وهي حرب أحجامٍ سيتجنّب فيها هذا الثنائي أيَّ خرقٍ لأيّ مقعد شيعي، تماماً كما سيحاول تيار «المستقبل» أن يتجنّب خسارةَ عددٍ كبير من المقاعد السنّية في أكثر من دائرة.