في مثل هذه الايام منذ سبع سنوات، أيقظ السوريون حلماً لبنانياً قديماً، وفكرة لبنانية مغرية: إنها الثورة التي تدق ابواب الهيكل الممتد على مساحة دولتين في شعب واحد، وتعد باسقاط نظامين متجانسين، لطالما كان بينهما الكثير من التواطوء على سحق معارضيهما المشتركين، وعلى الالتزام أمام العالم الخارجي بوحدة"المسار والمصير"، التي دفع لبنانيون كثيرون أرواحهم من أجلها.

كانت ثورة تستوحي النموذجين المصري والتونسي، وتمني النفس بالنموذج الليبي، وتخشى من النموذج اليمني، لكنها تبني تجربتها الخاصة على وطنية سورية متقدمة، او هكذا بدا الأمر يومها، وعلى مشروع للتغيير كان يتوقع أن يسبق بقية بلدان الربيع العربي، لأنه محمول على أكتاف جمهور متميز ، حتى عن التوانسة، وموجه ضد نظام فاسد، مزيف، فاقد للشرعية، ينتمي الى شرعيات الأنظمة الاشتراكية لأوروبا الشرقية التي إنهارت واحداً تلو الآخر في ثمانينات القرن الماضي.

في تلك الايام ،كانت ثورة سهلة، أسقطت حاجزاً للخوف عمره أكثر من أربعين عاما. لكنها سرعان ما أصطدمت بحواجز أكبر وأقوى. كان هناك إجماع عربي لم يسبق له مثيل على منع سقوط النظام، وعلى نصح النظام، وعلى إصلاح النظام. وكان هناك إجماع دولي عز نظيره على الحؤول دون الإخلال بالتوازن الدقيق في موقع سوريا ودوره نظامها المطمئن لإسرائيل، والمفيد لإيران، والواعد لتركيا، والمريح لدول الخليج العربية التي لم تكن تريد أن يلقى بشار الاسد مصير  زين العابدين بن علي أو حسني مبارك او حتى معمر القذافي..والمؤكد أنها لم تكن ترغب أيضاً في تكرار سيناريو صدام حسين.

لكن الرغبات العربية والدولية بالاصلاح، التي صمد بعضها طوال العامين الاولين من الثورة تفككت على صخرة عناد النظام وغطرسته ودمويته، وإتخذ الصراع مسارات طبيعية معروفة: لم يعد سؤال الخليج وتركيا مثلا ،كيف تقنع النظام بوقف الحملة العسكرية الضارية على المدنيين، بل كيف توفر للسوريين وسائل الحماية والدفاع عن النفس. عندها تفرق الخليجيون وتنافسوا على كسب السباق قبل نهايته، وعلى اللجوء الى الأدوات الاسلامية الاسوأ ، وتحول الاتراك من ناصح ومرشد سياسي لبشار ، الى منصة رئيسية لقتاله. دبت الفوضى في صفوف المعارضة السورية، وساد الارتباك تشكيلاتها الاولى التي سبق ان حازت على أعترافات عربية ودولية متلاحقة بشرعيتها وأحقيتها في صناعة مستقبل سوريا. في المقابل تماسكت صفوف النظام خلف الراية الايرانية الموحدة، وأكتسبت مصداقية جديدة أمام الاجانب ومعظم كونها تحارب إرهاباً إسلامياً، أغرى روسيا بالعودة الى مرتبة الدولة العظمى، من خلال المساهمة في سد الثغرة السورية على غرار الثغرات الشيشانية والاوكرانية والجورجية.

لم تكن تلك الثورة في صورتها الاولى ثم التحولات التي طرأت عليها، سوى مناسبة لبنانية جديدة لإزالة الحدود "المصطنعة" بين البلدين وبين الشعبين. تحرك النازحون في إتجاه، وتحرك المقاتلون في الإتجاه المقابل. وما كان يبدو انه مسعى مرغوب لتغيير النظامين المترابطين في الدولتين وإسقاطهما معا، أصبح تهديداً للامن المتبادل، ومخططاً لتفكيك وتفجير العلاقات بين الطوائف والمذاهب العابرة للحدود المشتركة..عندها، وفي ضوء إنقلاب موازين القوى السورية، بفعل الحملة العسكرية الايرانية والروسية، عاد لبنان الى سيرته السابقة، وعاد نظامه الى طبيعته الاولى، بوصفه رديفاً للنظام في دمشق وشريكاً في معركته، وتشكلت في بيروت سلطة لا تختلف في جوهرها عن السلطة التي هندسها النظام السوري في سبعينات القرن الماضي، ولا تمت بصلة الى أي من عناوين الانتفاضة اللبنانية على ذلك النظام في العام 2005.

وبرغم زوال الحدود الدولية المشتركة، ظل لبنان محظوظاً ، إذ لم تتسرب اليه مجموعات واسعة من المقاتلين الاسلاميين السوريين وغير السوريين، بل تسللت شبكات وخلايا محدودة، كما لم تضطرب توازناته الداخلية بفعل النزوح السوري الذي تبين أنه أحد أهم عناصر حفظ الاستقرار الامني والاقتصادي اللبناني.. لكن الافق السياسي بات مغلقاً أكثر من اي وقت مضى في تاريخ لبنان الحديث، وصار متصلاً بخيارات النظام السوري ومطالبه المبنية على الحل العسكري الذي يقترب من حسمه على الاراضي السورية.

قبل سبع سنوات، كانت ثورة على نظامين، فإذا هي تعيد إنتاج النظامين، وتدفع سوريا عقوداً الى الوراء، وتعد لبنان بالعودة المظفرة مرة أخرى الى حضن النظام السوري المعاد تصنيعه.