قال الزعيم الهندي جواهر لال نهرو مرة أن “كلمات اللغة الانكليزية تأخذ معنى مختلفا حين تعبر قنال السويس”. ربما يمكننا القول على طريقته، ولوْ في ظروف مختلفة، أن كلمات اللغة الروسية اليوم باتت تأخذ معنى آخر حين تعبر الأجواء السورية. فيما تتجدد رئاسة فلاديمير بوتين لروسيا فهو يعود رئيسا وقد باتت هناك مدرسة “بوتينية” لرؤية وممارسة السياسة الخارجية استطاعت أن تحقق نجاحات استراتيجية وتكتيكية في العلاقات مع الغرب قائمة على بعث وطنية روسية عميقة. تنبني هذه الوطنية البوتينية في وعي مؤيديها الروس على عدد من العناصر الكامنة والمحركة:

1- “الخديعة” كحقيقة جوهرية مارسها الغرب ضد روسيا على مراحل: خديعة استخدام الانهيار السلمي للاتحاد السوفياتي، الأمبراطورية الكبرى للروس في القرن العشرين، للسيطرة على معظم أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى ومحاصرة روسيا بأسلحة استراتيجية في قلب الشرق و الشمال الإوروبيين.

2- الخديعة الغربية في استخدام الديموقراطية كأداة متواصلة لإضعاف الداخل الروسي دولةً ومجتمعاً.

3- الخديعة الغربية في استخدام الديموقراطية كأداة انتزاع دول على حدودها كأوكرانيا وجورجيا لتحويلها إلى معاقل تصويب عدائي واستنزافي لموسكو.

4- الخديعة الغربية في استخدام الصحوة الديموقراطية في الشرق الأوسط وتحديدا العالم العربي لإكمال حصار روسيا من المناطق القريبة من حدودها الجنوبية ولا سيما سوريا.

5- الخديعة الغربية في تجديد استخدام الإسلام الأصولي لحصار واستنزاف روسيا من الداخل والخارج.

لهذا وُلدت البوتينية فعليا في الشيشان في أواخر التسعينات من القرن المنصرم عندما تولّى الضابط السابق في المخابرات فلاديمير بوتين وقد أصبح رئيسا للوزراء ملف جمهورية الشيشان المتمردة على السلطة المركزية الروسية وهي الجمهورية التابعة للاتحاد الروسي.

نجح فلاديمير بوتين في الشيشان وقمع بضراوة انفصاليي تلك الجمهورية الصغيرة وعبر ذلك بدأت ظاهرته تقوى حاملةً معها شخصية خاصة هجومية في السياسة الخارجية. أينما كان في هذه الدوائر الخمس كان التبرير الجوهري الذي يغذّي الوطنية البوتينية هو التعرض للخديعة ثم مواجهتها. هكذا استخدم بوتين ما اعتبره خديعة التطبيق غير المشروع لقرار مجلس الأمن حول ليبيا باعتماد التدخل العسكري لطرد نظام معمر القذافي ومعه الروس من تلك الدولة (التي سيعود إليها بوتين لاحقا من البوابة المصرية). استخدم ذلك لتعبيد الطريق امام قرار استراتيجي بالتدخل العسكري في سوريا، قرار سيقلب المعادلة في الحرب السورية التي باتت حربا ضارية اهلية واقليمية ودولية معا.

في هذا الوقت يردّ بوتين على ما يعتبره “الخديعة” الغربية في اوكرانيا عندما نقض الاتحاد الأوروبي صباحا اتفاقا أبرمه الفريقان المحليان المتصارعان وأُسْقِط الرئيس الموالي لموسكو بانتفاضة أمنية شعبية… ردّ بوتين بقرار راديكالي هو ضم شبه جزيرة القرم كليا الى السيادة الروسية وفتح سابقة في العلاقات الدولية ضد الغرب ستضع الاخير امام خيار الحرب العالمية او التراجع.

كان من حظ البوتينية في هذا المسار تلاقي مصالحها الشامل والعميق مع الصين الصاعدة والخائفة من الغرب الأميركي واستخدام التيار الأصولي الإسلامي في مقاطعة سينكيانغ التابعة للصين وذات الأكثرية المسلمة. سيشكل مجلس الأمن الدولي للبوتينيّة المسرحَ السياسي والديبلوماسي الأهم لتعطيل مشاريع القرارات الغربية في سوريا.

لا يمكن ردُّ كل النجاحات التي حقّقها الرئيس بوتين فقط إلى التخطيط الجيّد والدقيق واللعب المتعدد المستويات مثل التحالف مع إيران والصداقة الفعلية مع إسرائيل. إنما أيضا هناك عوامل موضوعية وهي تجميع قوى كثيرة وجدت مصلحتها مهددة بالتحولات التي قادتها واشنطن والاتحاد الأوروبي في العالم العربي والتي كانت تحمل اسم “الربيع العربي” ولا سيما الدولة المصرية التي تخوض حربا ضد الإرهاب “الإخواني” ثم لاحقا تقارب روسيا مع تركيا رجب طيّب أردوغان في مرحلة استفراده بالسلطة وتعطيله العملية الديموقراطية التركية وبالتوازي مع ذلك “اكتشافه” تصاعد خطر الانفصالية الكردية بسبب سياسته السابقة في سوريا. كل هذا وقد تحولت السياسة الأميركية في المنطقة بين إدارتي أوباما وترامب إلى لاعب على رقعة متقطِّعة بين العراق وسوريا لا تربطها علاقات ثابتة، عكس السابق، بأطراف الصراع المحلي. فالمحور الثلاثي الروسي الإيراني التركي بات إحدى أكبر معادلات المنطقة الأساسية وهذا أكبر مكاسب البوتينية في العقدين المنصرمَيْن في الشرق الأوسط. عدد من الأسئلة الجوهرية تثيرها البوتينية الصاعدة: منها هل باتت البوتينية حاجة أساسية في الشرق الأوسط، ليس فقط لأنها فرضت نفسها بالقوة وكانت مهمشة سابقا بل أيضا كحاجة تتطلع إليها قوى عديدة في المنطقة للتوازن مع سياسة غربية غير مستقرة. فالقوى السلطوية المحافظة والعسكرية ترى في البوتينيّة مركز جذب أقرب لتفهم الحاجة للاستقرار من واشنطن المنشغلة بالرهان على قوى جديدة في الشارع وجرّبت حتى استخدام أنواع مختلفة من الأصولية قبل أن تنقلب عليها؟ في القرن التاسع عشر كانت المؤسسات التعليمية الروسية في لبنان وسوريا تنافس المؤسسات التعليمية اليسوعية الفرنسية والتبشيرية الأميركية. تلاشى هذا الحضور تدريجيا حتى اختفى تقريبا بعد الثورة البلشفية من جهة وانتصار فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى. حتى الآن العودة الروسية البوتينية هي عسكرية سياسية مع انخراط يجب رصد مدى عمقه وثباته مع مصر وإيران والدولة السورية وبعض القوى المحلية الداعمة لها كالمسيحيين والعلويين على الساحل السوري الذي هو عمليا اليوم منطقة “دولية” مستقرة تحت الحماية الروسية بكل ما تعنيه الكلمة من رأس البسيط حتى الحدود مع لبنان.

السؤال التقليدي المؤرق على ضوء تجربة الاتحاد السوفياتي هو هل تملك البوتينيّة على المستوى الدولي إمكان مواصلة سياسة هجومية ديبلوماسية وجيوسياسية في حين يعاني الاقتصاد الروسي ضعفا بنيويا مما يفصل بين القوة العسكرية والطاقة الاقتصادية؟ حتى الآن منعت البوتينية توظيف الغرب الضعف الاقتصادي الروسي في صراعه مع روسيا… ولكن إلى متى؟

يضعنا تقييم البوتينيّة بمناسبة تجديد رئاسة بوتين أمام تلازم هذه الظاهرة مع ظهور قصور قابليات مجتمعاتنا عن تحمُّل أعباء تطلعات نخبه الشبابية المدينيّة لبناء الديموقراطية؟ بل أكثر من القصور… وصلنا إلى انهيارات لدول ومجتمعاتها كما في سوريا وليبيا واليمن؟

السؤال “البوتيني” الأخير يخصّ تجربة المعارضة السورية حين يتساءل العديد من مثقفيها المقيمين سعداء في العواصم الغربية ما لا يستطيعون التصريح به علنا حتى الآن: هل كان الهدف الغربي من دعم “الثورات” العربية هو قيام الديموقراطية وإنهاء أنظمة الاستبداد أم تدمير هذه البلدان والوصول إلى الفوضى التي وصلت إليها؟

في داخل روسيا تتغذّى البوتينية تقليديا من سؤال نظرية المؤامرة على روسيا وليس دمقرطتها. وقد حقق الرئيس بوتين نجاحا كبيرا بسبب فهمه واستثماره لهذه المخاوف… وسينجح اكثر على الأرجح في ولايته الجديدة… إذا صمد الاقتصاد الروسي.

ربما باتت الثنائية الروسية الصينية، نوعا متكاملا مختلفا من الثنائية العملاقة التي يواجهها الغرب بسبب القوة الاقتصادية الصينية والامتداد الجيوبوليتيكي العسكري الشاسع لروسيا. فالاتحاد السوفياتي انهار بعد صراع “بارد” طويل ليس فقط مع الولايات المتحدة وإنما مع الصين أيضاً؟

لكن الذي يستمر كتحدٍّ هو سؤال معولم: هل البوتينية وحليفتها الصين تواجهان الديموقراطية ك”نهاية للتاريخ” أم كمشاريع نماذج لما بعد “نهاية التاريخ”؟